بنسبة نجاح معيارية وفق المعهود في الديموقراطيات الراسخة ، أسفر اقتراع 29 يونيو 2024 م عن فوز الرئيس المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني بمأمورية ثانية تقلب معها موريتانيا صفحة حافلة - بما لها و عليها - و تفتح أخرى حبلى بالطموحات والانتظارات . وبذلك يتطلع كثير من الموريتانيين أن يكون بلدهم حقيقة على موعد مع قدر جديد باستهلال كتابة هذا السفر من تاريخهم .
ومن نافلة القول أن نتائج هذه الانتخابات المهمة، في ذاتها و قياسا مع سابقاتها ، تحمل رسائل واضحة الدلالة بل إنها مؤذنة بإستحقاقات لم تعد تقبل التأجيل .
و كمثل الجديدين الليل والنهار يعتبر الحكم الجديد و التجديد له صنوين لكنهما مختلفان .
و في ثقافتنا المحلية يقال أن الجمل "بركات ثنتين " أي أن بروكه من مرحلتين و ذلك كناية عن أن الأمور بالخواتيم والعبرة بالمحصلة . وفي فقه السياسة و سلوكياتها ثمة فارق كبير في المنطق بين الشوطين في الإنتخابات و هو فرق كذلك حاصل أيضا ما بين المأموريتين في الحكم .
ففي الشوط الأول يمارس الفرد حريته في التصويت من منطق الخيار لمن يراه الأصلح أما في الشوط الثاني فهو يمارس العملية ذاتها من منظور مختلف هو الإقصاء لمن يحسبه الأسوء من بين المتبقيين في السباق .
و بخصوص المأموريتين فهما تختلفان كذلك في المنطق و التقدير و البرنامج لا سيما أن الأنظمة المنتخبة هي بطبيعتها إصلاحية وليست ثورية:
- ففي المأمورية الأولى يكون ابتداءا هامش التصرف مقيدا بأمور عدة منها واجب الوفاء ببعض الالتزامات الانتخابية و مراعاة الموازنات السياسية الحاكمة أصلا في عملية الوصول إلى سدة السلطة مما قد يعقد أحيانا تنفيذ الإصلاحات الجوهرية والعميقة المرغوبة والتي قد يشكل المضي فيها قدما أمرا إشكاليا ، فتضيع بذلك الفرص ويتعثر الزخم ضمن خضم من الإكراهات والقيود بحيث لا تنقضي مرحلة التحرر من التزامات البدء تلك حتى تطل برأسها قيود أخرى ذات علاقة بالتجديد و سياقاته الإجبارية من ضرورات الاسترضاء و المصانعة .
يضاف إلى هذا أنه - و بدرجة قد تختلف - فكل رئيس جديد منتخب يجد نفسه أول أمره أمام محك أو مرحلة انتقالية من دهشة الجديد و التأقلم مع الشغل المادي للمقعد و إحكام السيطرة على دولاب الحكم و مسك الملفات ، هذا فضلا عن مفاعيل الظرفيات الطارئة و غير المتحكم بها .
- أما خلال المأمورية الثانية و الأخيرة فقد صار الرئيس المجدد له أكثر تمرسا وقدرة وأمضى عزما وأوضح رؤية حول ما يريد وبمن يستعين على ذلك وكيف يكون الوصول .
ولعل الأهم هو كون الرئيس في المأمورية الثانية وقد أضحى محررا من غالب الاعتبارات المقيدة أو المعيقة يصير اهتمامه منصبا بالدرجة الأولى على تحقيق طموحه الشخصي لبلده وكذلك على متروكه للأجيال وميراثه التاريخي ووديعته للمستقبل .
ومن هذا المنظور يبدو لي أن التأكيد العلني والمتكرر خلال الحملة الرئاسية الأخيرة و لا سيما بتلك اللغة الحازمة والحاسمة من الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني فيما يتعلق بمسألة الشباب و بقضية استئصال شأفة الفساد والتخلص من أهله قد أسس على ما يبدو لتحول جديد وجدير بالتوقف عنده .
وبخصوص القضاء على الفساد وهو مربط الفرس فإن الأمر بقدر ما هو حقيقة وعد مبشر فإنه بنفس الوقت وعيد بمجابهة لمشاكل عويصة إذ أنه خوض لاختبار جد عسير .
نعم على المفسدين أن يغلقوا لكن على أولئك الذين يدعمون هذا التوجه او لطالما دعوا له أن يربطوا الآن الأحزمة و يشمروا لدعم الرئيس في تلك "المنازلة الكبرى ".
صحيح أن " الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" لكن الفساد في بلادنا وفي كثير من البلاد حولنا أضحى نظاما شاملا أو نظام حياة ، عميق الجذور وذا بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا فضلا عن كونه قد استقر من قديم بحيث باض و فرخ في عديد الأركان والزوايا.
و بالتأكيد ستكون للمباشرة في محاربة الفساد المالي المعلنة انعكاسات شاملة إيجابية و تأثيرات إصلاحية جانبية مستحثة effets induits على كل المناحي الأخرى من السياسة إلى القيم و هلم جرا .
من هنا فسيكون لمثل ذلك التوجه في الإصلاح خصوم أقوياء كثيرون ومتربصون عند الضرورة لا سيما إن خشوا من توسع مضمون المحاربة المرتقبة للفساد من الأمور المستقبلية إلى تلك الراهنية أو حتى ذات الرجعية في التأثير مع وعي الكثيرين أن المهم والملح هو إطفاء الحريق قبل الالتفات لأي شيء آخر .
فإذن كيف سيكون الفطام لدى من تعودوا على ثقافة الاستحواذ و الاستفراد التي درجوا عليها وأنى يحصل لديهم بسهولة القبول بذلك وهم من كانوا يجهزون أنفسهم لطفرة الغاز و يمنونها بامتلاك الطائرات الخاصة وربما اليخوت مع الأجيال الحديثة من رباعيات الدفع دون إغفال تملك الأصول العقارية الثمينة في الخارج بموازاة ما لهم في الداخل .
إنها مواجهة إن بدأت فستكون مستعرة و إن في الخفاء و بالمراوغة أحيانا كما أن خطوطها ستتحرك بسرعة محدثة انتقالات كثيرة وغير متوقعة ما بين العدوتين، لكن الانتصار فيها بالنهاية مضمون ومطلوب و جدير بالتضحية .
ربما يمني أهل الفساد أنفسهم بأن الوعيد للمفسدين كان كلاما للحملة أو هو من قبيل دغدغة مشاعر العامة أو ربما حتى مزاحمة للمعارضة في الخطاب .
وللأسف فالكثير من المعارضين ينظرون للموضوع من تلك الزاوية ويقابلون الأمر بتشكيك كبير وفي أحسن الأحوال بعدم يقين في الوقت الذي يكمن فيه سواد الشعب داخل نفسه ينتظر بأمل لعلها تكون هذه هي المرة التي ستكسر فيها الجرة .
نعم هناك حالة تشبع كبرى و عامة من رفض استمرار الفساد و ما يحدثه من توالد مشاعر الغبن و المظلومية كما تسكن أشواق عميقة معظم النفوس والضمائر تطلعا لمسار جديد و أفق أوسع من التمكين الديموقراطي و إقامة العدل و محاربة الفساد تماما كالذي وعدهم به مؤخرا فخامة الرئيس المنتخب في برنامجه وطموحه للبلد كما في خطاباته خلال الحملة .
نعم تقف بلادنا على مفترق طرق له ما بعده فإما أن يكون الفتح على الغد المشرق الموعود أو لا قدر الله ففتح في ردم يأجوج و مأجوج .
هذه لحظة فارقة و مفصلية ، الوعود فيها مبشرة و الأمل كبير و المراهنة في محلها على سيادة الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني الذي نقدم له بالمناسبة كل التهنئة على نيل ثقة الشعب وعلى نجاح هذه الانتخابات محل الإشادة .
السلام عليكم
محمد ولد شيخنا
-