ساهمت الكثير من العوامل المركبة والمعقدة في بعض الأحيان في تأزيم الوضع الداخلي الموريتاني، بدأ الأمر بمشكلة هُوية الدولة في ستينيات القرن الماضي، ثم حرب الصحراء، فجفاف سبعينيات القرن ذاته، وكان للعامل الخارجي المتمثل أساسا في مصالح المستعمر القديم دوره في تغذية ثنائية الهُوية وتغيير شكل الأنظمة المتعاقبة على تسيير البلد.
لقد أدى ضعف البنى التحتية وازدياد الضغط عليها في المدن وتأثر مثقفيها الشباب بالحركات الشيوعية في نسختها الماوية إلى ظهور وعي جديد برز في شكل احتجاجات مع الكادحين لتتفرع عنه حركات عرقية وحقوقية تعكس في جميع تجلياتها عدم اهتمام الدولة الموريتانية بمخاطر آخذة في الانتشار وبشكل يهدد السلم الاجتماعي. وتعتبر المحاولة الانقلابية عام 1987 إحدى النتائج المباشرة للتجاذبات المتوترة التي يعيشها المجتمع منذ نشأت الدولة، ورغم ذلك فإن الأنظمة لم تأخذ بعين الاعتبار الخطر الذي تشكله المسألة العرقية القائمة على ردة فعل عنيفة تستخدم التاريخ لشرعنتها ولتبرير نزعة الانتقام لديها.
كانت جماعة الضباط في كل مرة تحاول امتصاص تلك النقمات سواء من خلال تصفية أشخاص بعينهم، أومن خلال تغيير رأس النظام، دون معالجة الأسباب الحقيقية للمشكلة التي كانت تتطلب بناء دولة تفرض سيادتها على الجميع وتمكنهم من الولوج إلى الفرص بالمعايير نفسها.
وبعد انهيار النظام العالمي الثنائي الأقطاب، فُرضت على جميع الدول الإفريقية ومن ضمنها موريتانيا تبني النهج الديمقراطي، وقد وجد نظام ولد الطايع (1984-2005) وقتها فرصة لإعادة تأسيس الدولة من جديد على أسس تجنبها تصادم كتلها الديموغرافية، لكنه فضل اللجوء إلى ابتداع تقنية "التّسكاتْ" التي تعني إغراء الوجوه النشطة لتخلي عن خطابها المدافع عن الطبقات المسحوقة، وبذلك فتح على نفسه بابا دخل منه كل الانتهازيين دون معالجة للجذور الحقيقية للمشكلة التي أصبحت إحدى أهم التحديات التي تواجه الأمن الداخلي .
ومع الوقت وانتشار وسائل الإعلام بمختلف أنواعها أصبح هنالك وعي شبه جماعي بضرورة التغيير، فتقنية "التّسكات" لم تنتج سوى أجيال ناقمة على السلطة وكل معاونيها، تجلى ذلك من خلال الاحتجاجات شبه اليومية والمحاولة الانقلابية في العام 2003، ثم انقلاب 2005 ، وفي مثل هذه الظروف العصيبة عادة مايتم تغيير الرؤوس في محاولة لتهدئة نقمة ستدفع فيما بعد كل شريحةللانغلاق على نفسها سبيلاً للدفاع عن حقوقها بعد أن فقدت الأمل في إقامة كيان جامع.
اليوم تعيش ساكنة موريتانيا يأساً مزمنا وصل درجة الانفجار، فمحاربة الفساد التي رُفع شعارها خلال عشرية التأزيم، أثبتت أنها تعني ترسيخ الفساد وبصورة منافية لكل الآليات التي تُدار بها الدول، هذا الأمر أدى لانتشار مظاهر العنف بأنواعه العرقي والديني وكذا اللفظي، في مجتمع كان يوصف بأنه قائم على عقد اجتماعي من السلم ورثه عن عهود السيبه، يمكنه من الحفاظ على أمنه الداخلي دون الحاجة لرجل أمن. وقدأبانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن خلل عميق برز من خلال قطيعة للمواطن مع مفهوم الدولة التي فضل انتماءه الشرائحي عليها وعلى آليات اختيارها للحكم ، ولهذا مايبرره، يأتي هذا بعد ثلاثة عقود من التجربة الديمقراطية في البلد وهي فترة كافية لتقنع الدولة المواطن بأهميتها بالنسبة للتناوب السلمي على السلطة، لكن العكس هو ماحدث تماماً، فقد انشتر الخطاب الشرائحي، وساد قاموس من العنف اللفظي بين مكونات الشعب الواحد، وتسربت للخطاب السياسي أدبيات تُمجّد الشريحة على حساب اللحمة الوطنية.
لم تستطع جميع الأنظمة المتعاقبة الخروج من الحلقات المفرغة ذاتها، وإن كان نظام ولد الغزواني قد استطاع في الأشهر الأربعة الأولى من عمره أن يخفف وتيرة التصعيد الشرائحي بخطاب بدا مقنعاً لمعظم أقطاب الضيف السياسي، وحتى للمواطن البسيط، لكن تركيزه على الدوائر ذاتها من خلال تعيين معظم وزرائه من نظام سلفه ثم تعيينه لرجال ولد الطايع أعاد للأذهان إشكالية منح الثقة لرؤوس أثبت تاريخها استحالة عزلها عن محيط ضيق تعمل كل آلياته ضد دولة المواطنة.
إن نشر تقارير محكمة الحسابات دون عقاب للمخالفين، فضلا عن فضيحة البنك المركزي وتهريب العملات الصعبة عبر السفن، كلها عوامل ستكون على حساب ثقة المواطن -خصوصا الشباب- بنظام ولد الغزواني الذي أعادت حكومته الأخيرة إلى الأذهان إشكالية النهاية العنيفة للأنظمة الدائرة في الفلك ذاته، فالانقلابات التي شكلت العصا السحرية للخروج من عنق الزجاجة يمكنها أن تحول موريتانيا اليوم لدولة فاشلة بعد تحطيمها لرقم قياسي في استخدام وسيلة كادت أن تحولها منذعقد ونصف إلى بلد محاصر، وهذا يطرح بإلحاح إشكالية التغيير في ظل التمسك بالمسار ذاته، ولاشك أن مستشاري الرئيس والمقربين منه يدركون جيداً أن معظم محاولات تغيير الأنظمة كانت تقوم بها نخبة من الضباط بمساعدة مدنيين من أصحاب الرأي ، بمعنى أن القاعدة العريضة من الشعب كانت تبارك الأمر بعد نهايته، ما يعني أنها خارج عن الفعل التغييري في تلك الفترات، لكنهم في المقابل قد لايتصورون، وهو أمر واضح من خلال تعاطيهم مع الأزمة،( ارتفاع أسعار أدوية الأمراض المزمنة وغيرها)أن كل المعطيات تظهر أن التغيير هذه المرة قد لايكون سياسياولاعسكرياً، بقدر ما ستحدثه كتل من اليأس تدفع بشباب فقد الثقة في كل شيء لتحرك عشوائي يمكنه الخروج عن السيطرة بسهولة لأنه مدفوع بمتطلبات ووعي المواطن البسيط الذي فرضته الظروفالصعبة على تحمل مسؤولياته، بعد أن ظل متفرجا لأكثر من خمسة عقود.
ولكي يكون النظام قادراً على مواكبة الإيقاعات المتسارعة لشعب تحرضه سياسات السلطة على التخلي عن سلميته، فإن عليه في هذه المرحلة بالذات أن يخطو خطوات مقنعة إلى الأمام، ولن يتأتىله ذلك إلا بالخروج من الحلقات المفرغة التي تدور فيها الأنظمة منذ عشرات السنين، كما أنه بحاجة للتسريع بتوتيرة الإصلاحات والتخلي عن وجوه بعينها وشعارات للاستهلاك المحلي أصبحت رمزا لفشل أنظمة سابقة، واعتقد جازماً أن تكرارها سيُعجّل بصدام بدأت كل ملامحه في الأفق. فهل سيتخذ النظام الحالي إجراءاتعملية لتفاديه؟ أم أنه سيهيئ الظروف المناسبة لانفجاره؟.
مهما يكن من أمر فإن وضعية موريتانيا لاتحتمل التسويف، ولايمكن لإعادة تدوير الأشخاص المنتهية صلاحيتهم أن تجنب البلد مخاطر لا يتسطيع أحد التكهن بنتائجها، تماما كما لايمكن لتطوير تقنية "التّسْكاتْ" القائمة على أساس شرائحي أن تنقذ موقفاأصبحت آليات التعامل معه تثير هي الأخرى إشكالات عديدة ...
د. أمم ولد عبد الله