بشكل عابر تداولت يوم الأربعاء الماضي بعض الصحف التركية خبر العزم على نشر بطاريات S400 روسية الصنع على الحدود التركية -العراقية و ربطت الموضوع بأجواء عملية تركية محتملة أو حتى وشيكة ضد حزب العمال الكردستاني التركي PKK في شمال العراق .
البتة لا يبدو الأمر مقنعا في هكذا أمر و موجب لنشر هذا النظام الصاروخي الدفاعي الحساس في مثل ذلك المكان وبمثل هذا التوقيت ، ذلك أن أمريكا ظلت منزعجة على الدوام من تزود عضو في الناتو بمثل هذه الأسلحة الروسية المتقدمة كما كانت حريصة أصلا على إلغاء صفقة الشراء من روسيا و قد ضغطت من ٱجل ذلك بشدة على أنقرة و لاحقا بعد توريدها سعت على دفع تركيا لبيعها إلى طرف آخر ثم أصرت على إبقائها في المخازن وعدم نشرها و لا سيما على الحدود التركية مع دول حلف شمال الأطلسي أي غرب و شمال تركيا لأن ذلك يشكل تهديدا للحلف بوصف هذه البطاريات ما هي إلا منصات استخبارية روسية في الدرجة الأولى .
و من أجل احتواء الضغوط الشديدة فقد صانعت تركيا خلال السنوات الماضية و إلى حد كبير أمريكا في هذا الموضوع الشائك .
لكن في الآونة الأخيرة حصل اتفاق بين أمريكا وتركيا لتجاوز بعض ذيول الخلاف حول هذا النظام الدفاعي الجوي حيث تمت الموافقة الأمريكية على بيع عشرات الطائرات من طراز F 16 المحدثة و تحديث البعض الموجود منها أصلا لدى تركيا وذلك لتعويض طرد هذه الدولة الاطلسية الرئيسية من برنامج F 35 الذي كانت مشاركة فيه .
و في خضم الحرب الروسية الأوكرانية التي أظهرت من جديد الأهمية الجيوسياسية والعسكرية لتركيا فقد استطاعت أيضا هذه الدولة اللعب بذكاء و قوة في مسألة الضغط على أمريكا حول توسيع الحلف الأطلسي و لا سيما في ملف انضمام السويد مما جعل أمريكا تتنازل و تقبل بتحديث القوات الجوية عبر بوابة ال F16 تزويدا و تحديثا وطبعا دون حل لعقدة ال S400 الشائكة مع تركيا.
بالطبع ليس لدى حزب العمال الكردستاني ولا حتى دولة العراق ما يستدعي نشر مثل هذا النظام الدفاعي لا سيما أن لدى تركيا أنظمة دفاع جوية عديدة غربية وحتى محلية تركية الصنع جد متطورة و فعالة كنظام "حصار" مثلا و الذي ربما كان يفي بالغرض.
و من المعروف أن أمريكا ليست معنية باعتراض سبيل الأتراك ضد أكراد حزب العمال في شمال العراق على عكس ما قد يكون عليه الحال في التعرض لأكراد شمال سوريا حلفاء أمريكا ضد داعش .
و على ضوء ما سبق فما عسى يكون إذن مغزى و دلالات و ربما خلفيات نشر نظام ال S400 قبالة الحدود التركية/ العراقية؟
المنطقي و الأرجح أن يكون الموضوع مرتبطا إلى حد كبير بالوضع الحالي بين إيران و إسرائيل واحتمال تبادل الضربات بينهما أو حتى خطر الإنزلاق إلى حرب إقليمية .
لقد أشرنا في مقالة سابقة أن الرد الإيراني سيكون على الأرجح من الرواق الجوي لكردستان العراقية نظرا من جهة لعامل القرب الجغرافي و من جهة أخرى لتقليل فرص الاعتراض الأمريكي لها في الطريق إلى إسرائيل .
و بالمقابل اللافت أيضا أن أي رد إسرائيلي على الرد الإيراني سيسلك هو أيضا نفس المسار لضرب العمق الإيراني عبر الطيران الذي هو ذراع إسرائيل الطويلة .
فلا يمكن أو لا ينبغي أن تمر الطائرات الإسرائيلية فوق الأجواء الأردنية أو السعودية أو الخليجية عموما لدواعي بديهية كما يتعذر عليها الدوران حول كامل الجزيرة العربية للوصول إلى إيران لأسباب لوجستية و عملية على الرغم من القدرة الإسرائيلية على التزود بالوقود في الجو .
فالمناسب بل المريح للاقتراب الإسرائيلي من الأجواء الإيرانية أن يتم ذلك عبر سوريا و العراق لا سيما في شمال العراق و حيث ينتفي الحرج لدى إسرائيل من استباحة أجواء هاتين الدولتين العربيتين في ضوء ما لهما من علاقة مع إيران وضعف دفاعاتهما الجوية الخاصة على اعتراض سلاح الجو الإسرائيلي المتفوق .
و من هنا فيمكن لتفسير موضوع نشر S400 تصور ثلاثة احتمالات تبدو في بعضها متناقضة حتى في مضمونها :
1-الفرضية الأولى و هي أن يكون الأمر في إطار التضامن الأطلسي و ضمن مضمون العلاقة التركية بأمريكا بحيث يكون هدف النشر هو المساهمة في اعتراض الصواريخ والمسيرات الإيرانية في طريقها إلى إسرائيل و هذا أمر مستبعد جدا لا سيما الآن في ظل حكومة العدالة والتنمية و رئاسة أردوغان خاصة على ضوء العلاقة المتدهورة بين تركيا وإسرائيل و تأثيرات حرب إسرائيل الهمجية على غزة المغيظة لتركيا وكذلك مراعاة للجار الإيراني المسلم ؛
2- الاحتمال الثاني أن يكون على العكس من ذلك يأتي نشر النظام كإجراء موجه بشكل ما ضد إسرائيل لتقييد عملها بحيث يمنع عليها ذهاب وإيابا دخول المجال الجوي التركي أو حتى الاقتراب منه لكيلا تسقط طائراتهم بفعل صواريخ ال S400 بل و دفعهم حتى إلى التحليق بعيدا عن الشمال نحو وسط العراق المحرج لهم و لأمريكا لأنه نظريا ينبغي أن يكون محميا من قواعد أمريكا المنتشرة في أكثر من موقع و خاصة قاعدة "عين الأسد" .
و يمكن حتى الذهاب إلى تخيل القيام بإنذار إيران بشكل ما من الهجوم الإسرائيلي واقترابه و حجمه وإن كان ذلك يبدو أمرا مستبعدا حفاظا على العلاقة مع أمريكا وليس مراعاة لإسرائيل نفسها بالضرورة .
3-الخيار الثالث و هو ربما الأرجح فهو يقتضي أن يكون النشر لدواعي تركية خالصة والتي يمكن تلخيصها في نقطتين مهمتين:
-الأولى هو تأمين وتغطية المجال الجوي التركي سواء ضد الأسلحة الإيرانية التائهة وكذلك ضد الاختراقات الإسرائلية .
- الثانية هو التدريب وتقييم عمل وفعالية النظام في ظروف الحرب و ضد الأجيال المتقدمة من الطائرات لا سيما في قضية القدرة على اكتشاف طائرة F35 الشبحية الإسرائيلية و كذلك القدرة على الاشتباك معها ولو ألكترونيا بالرادارات دون إطلاق الصواريخ فعليا.
https://aja.ws/f44i1t
السلام عليكم .
محمد ولد شيخنا