عندما تتحمل دولة إفريقية تقع بمنتهى الخف و الحافر و على أبعد نقطة من غزة " الشهيدة" مسؤولية إنسانية و أخلاقية عظيمة بشكوى إسرائيل ، في مثل هذه الظروف المحتدمة ، أمام محكمة العدل الدولية سعيا لوقف الإبادة الجماعية فلا ينبغي إلا التنويه و الإشادة بمثل هذه الخطوة الشجاعة واللافتة التي انطلقت مرافعاتها اليوم بمدينة "لاهاي" في هولندا .
بداهة ليس مثل هذا بالموقف السهل أو التقليدي بل إن التجاسر عليه يحمل مجازفات حقيقية للدولة المبادرة لكن جنوب إفريقيا قبلت رفع ذلك التحدي الأخلاقي .
إن هذه السابقة بجرجرة إسرائيل أمام القضاء الدولي و السعي لتعريتها الأخلاقية ربما تؤسس لعداوة مستحكمة معها بشكل مستدام و كذلك مع الصهيونية العالمية التي تقف خلفها . كما تبدو بعض القوى الدولية الكبرى حانقة من ذلك أيضا لا سيما الولايات المتحدة مثلا و ربما الغرب عموما ، و قد سمعنا خلال اليومين الأخيرين تصريحات أمريكية عديدة مفندة لأسس هذا المسعى .
و ربما المدهش أن تكون جنوب إفريقيا قد أغضبت أيضا أو على الأقل أحرجت بعضا ممن كان الأولى بهم أن يكونوا أصحاب مثل هذه المبادرة من الأقربين و من هم أولى بالقيام بذلك الواجب المتعين و إن كانت دول ماليزيا وتركيا والأردن و معهم منظمة الدول الإسلامية قد التحقوا جميعهم بهذه الدعوة اقتداء بما فعلت "بوليفيا " النائية ولكن صاحبة المواقف المشرفة والتي منذ سنوات صارت محكومة من لدن الأغلبية السكانية المنتمية للهنود الحمر .
لقد أبت دولة جنوب إفريقيا إلا أن تقتحم العقبة مع أنها أسبقت خطوتها هذه بإجراءات دبلوماسية كتخفيض مستوى العلاقات و كذلك مواقف مشهودة أخرى من الإدانة اللفظية الشديدة في المحافل الدولية.
طبعا ليست دولة جنوب إفريقيا كغيرها من دول القارة و العالم إذ أنها لا زالت تتدثر بثوب الكرامة و يتنفس شعبها شعور النبل و العدالة ؛ فجيلها الحاكم هم تربية النضال و ورثة الزعيم التاريخي مانديلا .إنهم خريجو سجون الميز العنصري و محطمو أغلال و جدران "الآبارتهايد".
ذاكرتهم الجمعية حية و إحساسهم بالمظالم مرهف . إنهم يفهمون المعاناة ويحسون الآلام و يقدرون المواقف .
أكثر من ذلك فرئيسهم الحالي السيد سيريل رامافوزا هو من مواليد وخريجي ضاحية " إسويتو" SWETTO قلعة النضال الأسطورية كما أنه رجل قانون ونقابي مناضل و سجين سابق .
لقد كان رامافوزا الشخص المفضل لدى مانديلا كخليفة له لما لمس فيه ورأى مما ليس في أقرانه لكن القيادات التاريخية
(les caciques) لحزب المؤتمر الإفريقي (ANC ) قدموا عليه السيد تامبو إمبيكي إبن صديقهم المناضل المدعو " مهندس الثورة" غوفان إمبيكي من إقليم الترانسكاي .
و على الرغم من أن رامافوزا المناضل الصلب في نقابات المناجم أضحى رجل أعمال وهو حاليا سيد السياسة في بلده بدرجة رئيس الدولة إلا أن أي حسابات مقيدة من تينك المنظورين قد سقطت كلا لديه أمام اختبار الاخلاق و الإنصاف و التاريخ .
فتحت رماد تطاول الزمن والمناصب لا تزال جمرة الرجل حية بل إنها تشع وميضا و توهجا.
قديما اكتشف بجنوب إفريقيا " رأس الرجاء الصالح " الذي سمح وأسهم بازدهار العالم اقتصاديا وسهل ربطه واليوم بشموخ ترفع جنوب إفريقيا رأسها أيضا برجاء صالح لدى محكمة العدل الدولية من أجل وقف الحرب و الإبادة الجماعية و محاولة بعث الإنسانية وازدهار جديد لقيم العدل و صيانة وجود ومستقبل البشرية .
رغم تأخر إفريقيا الإقتصادي و الصور النمطية المشوهة التي تفرزها المركزية الأوروبية الإستعمارية فافريقيا اليوم رغم تشدقات الآخرين و نفاقهم هي الضمير الحي للعالم كما تتبوأ دولة مثل جنوب إفريقيا مكانة قوة عظمى أخلاقية و قد أعطت الدليل الحي على ذلك بخطواتها الحالية الشجاعة والتاريخية في "لاهاي".
غير أن القدوة في إفريقيا لا تكون دائما من لدن دولها القوية والكبيرة فحسب كما هو حال جنوب إفريقيا و إنما هي عادة مطردة .
فمع فارق العنت والمخاطرة ، لقد رأينا إحدى أصغر دول القارة وأضعفها تتحمل مسؤولية أخرى مشابهة منذ سنوات أمام نفس محكمة" لاهاي " و ذلك عندما تقدمت جمهورية غامبيا بشكوى ضد "ميانمار"- بورمانيا سابقا - لوقف جريمة الإبادة ضد مسلمي الروهينغا .
فتحية لإفريقيا قارة المستقبل والكرامة و بوصلة الأخلاق !
عاشت جنوب إفريقيا !
المجد لشعب منديلا وللرئيس الشجاع سيريل رامافوزا !
ختاما نسأل الله الرحمة والخلود لشهداء غزة و أن يربط على قلوبهم و أن يؤيدهم بنصره الذي حصل بالفعل و لكن يبقى أن يستتب . و الواقع أن ما تحقق حتى الآن من نصر ليوازي في تاريخيته وأهميته المعارك الكبرى التي جرت على نفس أرض فلسطين : كمعركة حطين وعين جالوت ....وهلم جرا
السلام عليكم
محمد ولد شيخنا