ختاما لهذه السلسلة من المهم أن نتوقف مع نماذج من مواقف مختلف الأطراف السياسية، كإسقاط عملي لما قررنا نظريا في المقالين السابقين، فبالمثال يتضح المقال..
فالنظر في مسار تحولات مختلف التشكيلات السياسية ـ وإن بشيء من الإيجاز يفرضه المقام ـ يبقى مهما وضروريا ليفتح أعيننا لقراءة واعية، وفهم شامل لهذه التقلبات، ولنضعها في نصابها الصحيح، وإطارها المناسب، دون اتهام لهذا الطرف أو ذاك باستمراء الخروج على الإجماع الوطني، أو إجماع المعارضة.
التشكيلات السياسية ومسارات التحول:
· كانت البداية مع حزب اتحاد قوى التقدم، حين حاور وتفاوض منفردا مع نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع في نهاية حكمه، وفي أوج الصراع بين الأخير و المعارضة، وفي فترة تنكر فيها لكل القيم الديمقراطية، وانتهج أشنع الأساليب من اعتقال لقادة المعارضة، وحل للأحزاب السياسية، ومصادرة للحريات العامة، واستهداف لثوابت المجتمع..
· ليأتي الدور على حزب التحالف الشعبي التقدمي وزعيمه مسعود ولد بلخير، حين قرر دعم الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله (مرشح العسكر) في الشوط الثاني من الانتخابات الرئاسية 2007 ، على خلاف ما كان متوقعا من دعمه للرئيس أحمد ولد داداه ممثل المعارضة، ورفيق درب النضال الطويل.
· وكان تكتل القوى الديمقراطية على موعد مع التحولات الكبرى، والموقف أكثر حساسية واللحظة أشد حرجا، حين تحول (في أغسطس 2008) من زعيم للمعارضة الديمقراطية، إلى أكبر داعم للانقلاب على أول رئيس مدني منتخب، بينما واجهت جميع أحزاب المعارضة وحتى الأغلبية ذلك الانقلاب الآثم، بنضالات مشهودة.
· وعاد مجددا مسعود ولد بلخير ليخرج من منسقية أحزاب المعارضة (سبتمبر 2011) ويشارك في حوار أحادي مع السلطة، في أوج القطيعة مع النظام و دعوات المعارضة للرحيل.
· ثم جاء الدور على حزب "تواصل" بترشحه منفردا في انتخابات 2013 التي قاطعتها جميع أحزاب منسقية المعارضة، وهو ما أعطى الشرعية للانتخابات.
· وبعدها شاركت حركة "إيرا" في الانتخابات الرئاسية 2014، بترشيح رئيسها بيرام الداه، بعد أن قررت جميع أحزاب المنتدى والتكتل مقاطعتها.
· وقبل ذلك انشق الرئيس كان حاميدو بابا (الرئيس الحالي لتحالف التعايش المشترك) من حزب "التكتل" وهو حينها أحد نواب الرئيس ونائب في البرلمان، ليترشح مع ولد عبد العزيز في انتخاباته المثيرة للجدل ( 6/6/ 2009).. كما دعم بعد ذلك كل من "عادل" و"حاتم" و"الصواب" الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وبعضهم شارك معه في الحكومة، قبل أن يعود الجميع للمعارضة.
هذا إذا نظرنا إلى كبريات المواقف، أما ما دون ذلك من مواقف جزئية أو تكتيكية، فحدث ولا حرج، فتواصل وتقدم يشاركان في حكومة الرئيس سيدي الذي عارضا ترشحه بقوة، و بيرام يفاوض ولد عبد العزيز في أيامه الأخيرة، وولد داداه يفاوض غزواني قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويصل الاتفاق بينهما إلى خطوات متقدمة، هذا بالنسبة للكيانات والأحزاب، أما مواقف الأفراد والقيادات والمدونين والحركات الشبابية، فكثيرة معلومة...
وفي التاريخ عبرة:
تلك حصيلة المسار السياسي القريب لهذه الأحزاب، أما حين نستطلع تاريخها مع بداية الديمقراطية، وحتى قبل ذلك في فترة حكم الراحل المختار ولد داداه، بدءاً بحركة النهضة (التي ناضلت بشراسة ضد هيمنة المستعمر وحلفائه في الداخل) واندماجها في حزب السلطة (1961)، ثم ما تبع ذلك من تحولات لمختلف الحركات السياسية، فإن الأفق سيتسع أكثر، ويقل التسرع، والعجلة في إطلاق الأحكام الناجزة، على هذا الطرف أو ذاك.
استشراف يمنع سرعة التخوين:
ومن المهم أيضا توقع واستشراف مستقبل ومآلات مواقفنا السياسية، قبل أن نحكم على الآخرين، وهذا ما دفعني إلى تذكير بعض زملائي في شباب المعارضة وحتى قادتها، حين بالغوا في تخوين بعض من التحقوا باكرا بمرشح السلطة قبيل الرئاسيات الأخيرة، بأن ينتبهوا فلا يعيبوا اليوم موقفا، قد يكون خيارا لبعض أحزابهم في المستقبل، فكان لي ـ أيضا ـ نصيبي من التخوين والتشكيك، ثم تمضي الأيام، ويلتحق عدد من قيادات هذه الأحزاب ممن تصعب المزايدة على نضالهم وصدقهم وتضحياتهم بالسلطة، ثم تناقش هذه الأحزاب خيار دعم ترشيح الرئيس غزواني من بين الخيارات المتاحة والمقبولة سياسيا، ثم الهيئات القيادية للأحزاب تحسم في هذا الاتجاه أو ذاك، ويكون البديل لبعض أحزاب المعارضة في مرشح لا يبتعد كثيرا عن مرشحي السلطة، بل هو قادم من رحم أعتاها فسادا وتسلطا.. ويلتحق آخرون بعد الانتخابات الرئاسية(حاتم)، وما زالت الخريطة السياسية قابلة للكثير من التشكل والتغيير، في المواقع والمواقف، ولم تستقر بعد في شكلها النهائي، مع، أو في مواجهة النظام الحالي..
ختام الختام :
والعبرة التي يجب أن نأخذها مما سبق، هي أن السياسة فن الممكن، ومجال الاجتهاد والمناورة فيها فسيح، وهذا لا يعني أنه لا مبادئ في السياسة ولا ثوابت ولا قيم، ولكن يعني أن دائرتها محصورة محدودة، وأن المواقف المختلفة هي وسائل لتجسيد تلك المبادئ، فمنها ما هو خادم لها، ومنها ما هو مضر بها، أو مناقض لها، ومنها ما يسع الخلاف فيه والتباين حوله، ومنها ما حقه السكوت والتجاوز..
وفي استحضار ما مثلنا له من مواقف جميع أطراف المشهد السياسي فوائد كثيرة.. طبعا لسنا هنا في وارد تقييم هذه المواقف سلبا أو إيجابا، فكل واحدا منها قد أثار نقاشات واسعة وأسال مدادا كثيرا، ففيها الصواب الذي تمليه المصلحة، وتفرضه ضرورات الواقع ـ وهو أكثرها في رأيي ـ وفيها المقبول والخطأ والخطيئة.. ولكنها للتذكير والعبرة، واستخلاص الدروس من سابق تجاربنا، ومن تجارب الآخرين، حتى لا نؤاخِذ الآخرين بما سبق و فعلناه أو بما يمكن أن نفعله في المستقبل، والمثل الشعبي يقول بأن: "الكِصران ما ايحاني لآخرة" وفي الحديث "يُبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه"
والله الموفق والهادي لسواء السبيل