هوامش تاريخية بمناسبة 11 سبتمبر
ابتداء ليس لأحد أن يكتب ولو كلمة اليوم دون التعبير عن كامل التضامن و المواساة مع المملكة المغربية الشقيقة ومع ضحايا الزلزال المدمر سائلين الله الرحمة للشهداء و الشفاء للمصابين وأن يفرج هذه الكربة ويلطف بالمغرب وأهله.
وهي مناسبة لتقديم خالص العزاء لجلالة الملك محمد السادس الذي كان في مثل هذ اليوم منذ 22 عاما في العاصمة إنواكشوط التي وصلها قبل يوم ، في زيارة رسمية هي الأولى له إلى موريتانيا .
كان العالم يوم 11 من سبتمبر 2001 م على موعد مع حدث جلل و جارف ، لا يبدو أن أحدا قد نجا من تأثير له في حياته ، كما بسببه كتبت مصائر جديدة لأمم و دول .
لقد كانت لحظة دولية فارقة طبعت مسار التاريخ المعاصر بحيث صار الحديث دارجا عما قبل الحادي عشر من سبتمبر و ما بعده .
و في خضم ذلك الحدث الرجراج طوحت بي مصادفات معينة إلى حضور لقاء غير مسبوق مع فخامة الرئيس الأسبق السيد معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع متعه الله بالصحة والعافية .
كان اجتماعا مهما بل نادرا بذلك الحجم
و نوعية الحضور و درجة الإنفتاح التي سادت خلاله .
وحتى لا أثقل على القراء وبعضهم قليلو الصبر على النصوص الطويلة المملة فسنقسم التدوينة إلى شطرين :
- الأول تحت عنوان : بين يدي الإجتماع،
- والثاني : حول كيف جرى ذلك الإجتماع .
الشطر الأول : "بين يدي الإجتماع "
صباح الثلاثاء الحادي عشر سبتمبر كنت في قاعة اجتماعات المكتب الثالث بالأركان الوطنية من أجل المشاركة في تصحيح مسابقة دخول الطلبة الضباط العاملين (EOA) لصالح المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة بأطار ( EMIA) .
كنت مساعدا للأستاذ المرحوم صالح ولد مولاي أحمد أو (صالح بابير) في تصحيح المادة العلمية (الرياضيات) من تلك المسابقة .
أنهى هو التصحيح النموذجي و اقترح جدول التنقيط (Le barême) و شرعنا في تصحيح أوراق الإمتحان .
و لمن لا يعرف فالأستاذ صالح بابير ليس فقط أستاذا علميا لامعا وإنما هو شخص موسوعي المعرفة فهو ضليع بالثقافة العامة و فلسفة العلوم .
ودائما ما يروح عن مجالسيه ببعض الأسئلة المبهجة و الطريفة .
وعلى سبيل المثال فقد طرح علينا ذات مرة السؤال التالي : اتدرون ماهي الأعداد (الحقيقية) الثلاثة التي تقوم عليها الرياضيات الحديثة؟
وكان جوابه أنها على التوالي :
- الأول هو الصفر(0)،
- والثاني ال بيPi (22/7=تقريبا3.14) وهو ثابت أرخميدس .
- أما الثالث فهو ثابت الأسية(الدالة الأسية )( e/exponentielle )
وهو تقريبا يساوي 2.71828 و هو يدعى عدد Euler وأحيانا ثابت Neper .
وكلا العددين الأخيرين هما عددان نسبيان كونيان غير منتهيين .
طبعا قد يجادل البعض ان العدد العقدي (التخيلي) (i أي قيمة جذر 1-) ربما يكون أيضا هو الآخر بنفس الدرجة َمن الأهمية في الرياضيات الحديثة .
أيضا كان معنا آخرون في التصحيح .
فهناك للثقافة العامة باللغة الفرنسية الأستاذ محمد الحافظ مدير المعهد التربوي الوطني و لنفس المادة بالعربية الأستاذ والنائب السابق محمدن .
في حدود الواحدة إلا الثلث دخل علينا زميلي المرحوم الرائد حينها محمد ولد دشق ليخبرنا عن كارثة تحل بأمريكا وأن طائرة تضرب في برج في نيويورك و عن خسائر كبيرة .
وتساءلت في نفسي هل هذا نبأ مثل ذلك الذي نقل لنا ذات مرة الأخ دشق خلال حزب الخليج الأولى (1991) من أن مقر رئيسة وزراء بريطانيا السيدة تاتشر قد قصف حالا تاركا في المفهوم أن الأمر يتعلق ربما بصواريخ عراقية؟
لقد كان حينها الخبر صحيحا على نحو ما إذ أن مقر الحكومة في (10داون إستريت) قد ضرب بالفعل ولكن بقذائف هاون أطلقها الجيش الجمهوري الإيرلندي من شاحنة صغيرة في الشارع و لكن في سياق بريطاني خالص .
غير أن آخرين بدأوا يؤكدون الرواية في نيويورك بشكل متطابق نقلا عن كل الإذاعات . و من سماعي فقط لما ينقلون ظل التقدير عندي انه ربما كان الأمر متعلقا بحادث طائرات صغيرة لمتدربين في أحد النوادي الخصوصية للطيران .
ثم لم نلبث أن سمعنا أبواق مرور موكب جلالة الملك الذي قطع زيارته وعاد للمغرب . أضحى الأمر جديا للغاية . فتم عندئذ تعليق التصحيح لذلك اليوم وذهب الجميع إلى بيوتهم .
وقد صدمت من مشاهدة الصور الأولى في قناة الجزيرة ولا اخفي اني شعرت حينها وعلى الفور بكثير من التعاطف مع الأمريكيين المفجوعين في رموزهم و أرواحهم و من صور الوجوه المغبرة و أولئك الذين يقفزون في الهواء من طوابق عليا للنجاة . كان اغلب الظن عندي أن الأمر متعلق ربما بإنتقام ياباني تاريخي
و اسطوري - و لو بعد حين - تنفذه منظمة متطرفة كالجيش الأحمر الياباني مثلا
و ذلك لما فعلت أمريكا بمدن اليابان من قصف نووي مروع في نهاية الحرب العالمية الثانية .
و مع المساء بدأت تظهر لائحة المنفذين الحقيقيين فاختلطت الكثير من مشاعر التعاطف السابقة بفائض من الخشية
و الرعب مما هو آت .
ثم صارت بعض الأسئلة تطفو :
- حول ما إذا كانت أمريكا قد استحقت شيئا من هذا العذاب نتيجة لبعض سياساتها الظالمة .
- و أيضا عن جوانب العبقرية و الجرأة في تنفيذ مثل هذه الهجمات المدمرة
و المتزامنة .
كانت التفسيرات حول الذي حدث و كيف ولماذا تذهب كل مذهب بل كان من ضمنها بعض التفسيرات الغريبة التي تعود لنظرية المؤامرة بحيث تصر على أن ما حدث هو من تدبير كيدي لجهات متآمرة في أمريكا نفسها و ذلك لأغراض خفية و مقصودة كخلق المبررات لمزيد من الهيمنة الكونية والعبث بالعالم .
في يوم موال اجتمعت الإدارة الأمريكية وقررت شن الحرب على أفغانستان
و وضعت هدفا واضحا للحرب هو : العثور على أسامة بن لادن حيا او ميتا (Dead Or alive).
كما انذرت أمريكا العالم كله جميعا أنه من ليس معها فهو ضدها.
و بدأ بذلك العالم في التزاحم على محطة الركوب في القطار الأمريكي الحربي المنطلق .
الكثيرون كالحلفاء كان أمرهم من باب الرغبة و التعاطف و التضامن وآخرون من بلاد الإسلام خاصة كان دافعهم أيضا الرهبة و الإستئمان و حتى إتقاء شر مستطير قد اقترب من لدن قوة جبارة مجروحة و منفلتة العقال .
كان الإستحقاق الأكبر في بيان الموقف
و جلاء الإختيار يقع على دولة باكستان جارة أفغانستان وحليفتها و راعية نظامها .
لذا فقد اجتمع قادةالفيالق في الجيش الباكستاني للحسم في المعضلة و كيف سيتجرعون ذلك السم . و بالطبع كان الخيار مفروغا منه ألا و هو الإصطفاف إلى الجانب الأمريكي في حربه على الجار الأفغاني رغما مما تفرضه الحقائق البديهية للجغراسيا (الجيوبولوتيكا) و دواعي الأمن الوطني و التضامن الأخوي الإسلامي .
لكن الغريب في الأمر ما كان تبريرا مقدما على أنه الحاسم في قضية الإنحياز لأمريكا و هو حماية الرادع النووي الوطني الذي تم تهديد باكستان بشأنه بدرجة سافرة
و وقحة .
وهنا تبرز مفارقة لافتة ، فالسلاح النووي نظريا وظيفته و أهميته تتجسد أساسا في حماية السيادة و تحصين القرار الوطني ؛ فكيف إذن يتم التفريط بمصالح عليا من أجل حماية هذا السلاح الرادع؟
إنها مفارقة وأية مفارقة عندما تتحول الميزة إلى عبء .
و لاحقا أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية المستعرة منذ عشرين شهرا جوانب جديدة من محدودية أهمية السلاح النووي من جهة قابلية إستعماله و حتى مضمون ردعه .
و بعد نهاية إسبوع عاصف جاء يوم الإثنين 17 سبتمبر 2011 حيث كان قائد المكتب الأول (مكتب الأشخاص ) قد ذهب في إجازة و صرت من ينوب عنه إذ أنا مساعده .
كان الوقت في حدود العاشرة و النصف عندما اتصل بي المقدم مدير الإشارة (اللاسلكي) ليقول أن ثمة اجتماع في ذلك اليوم عند الزوال بالرئاسة و أن قادة المكاتب و المديريات مدعوون لحضوره . حاولت أن أقول له أني لست رئيس مكتب و ربما أنا غير معنى بذلك .
رد علي بالنفي و أني سأحضر ممثلا عن المكتب .
في الظروف العادية كان ينبغي أن يشكل الإجتماع بفخامة رئيس الجمهورية و ضمن لفيف من كبار القادة العسكريين لمن هو في سني ورتبتي و مثل موقعي الوظيفي امتيازا و فرصة ذهبية لا تعوض ليتعرف عليك الرئيس الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وربما يحالفك الحظ بأن تلفت إنتباها إليك مما قد يمهد لك بشكل أفضل في مسارك المهني .
لكني و لأسباب ظرفية خاصة لم أكن معنيا حينها بلفت الإنتباه وإنما على العكس كان الأولى عندي صرف الإنتباه ما أمكن .
حاولت للتملص من استحقاق الإجتماع بأن اعتذر لمدير الإشارة بأن بذلتي الرسمية (Tenue vareuse) غير جاهزة لكنه صرفني عن ذلك بشكل حاسم .
عندها أسلمت نفسي لله وتجهزت ونزلت عند التوقيت المحدد للذهاب.....
يتبع