يلاَحِظ المراقب للشأن السياسي الإفريقي تَتَالِي الانقلابات العسكرية في السنوات الأخيرة والتي كان آخرها الانقلاب في النيجر نهاية شهر يوليو الماضي ، وهذه التحولات السياسية المفاجئة تثير التساؤل حول الأسباب الموضوعية الكامنة وراء التناوب بين النظام العسكري والنظام الديمقراطي في أفريقيا . فالعديد من الدول الإفريقية اختارت النظام الديمقراطي نموذجا للحكم السياسي الذي سيمكنها من إدارة ظهرها للانقلابات العسكرية وتمكين المواطنين المدنين من تدبير شؤونهم العامة ، إلا أن هذا الخيار ليس خيارا نهائيا على ما يبدو ، إذ لا تكاد تمضي فترة حتى نشهد في هذه الدولة الإفريقية أو تلك انقلابا عسكريا يٌعَلِقٌ العمل بالنظام الدستوري وغالبا ما يفضي إلى فترة انتقالية تنتهي في آخر المطاف إلى ميلاد نظام حكم سياسي جديد . والمٌتَأمِلٌ في خلفيات هذا التقليد السياسي العريق في أفريقيا يجد أن هذه الانقلابات العسكرية ليست مجرد نتيجة مباشرة لفشل الأنظمة الديمقراطية القائمة ونقص في التدابير التي كان ينبغي اتخاذها لتحصين المكاسب الديمقراطية ، بقدرماأن هذه الانقلابات مرتبطة بطبيعة الممارسات الديمقراطية ذاتها . ذلك أن الممارسات الديمقراطية في قارتنا الإفريقية ليست متشابهة من حيث شرعيتها وقدرة مؤسساتها على إرساء دولة المواطنة وإحداث التحولات الايجابية في المجالات التنموية المختلفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ، فالكثير من النظم السياسية التي تحكم باسم الديمقراطية هي في جوهرها دكتاتوريات تقتل المواهب وتحجب مظاهر حادة من الإقصاء السياسي والاجتماعي والتفاوت الطبقي والاقتصادي الذي تعاني منه شرائح واسعة من هذا المجتمع الإفريقي أو ذاك . ولذلك فعندما تستنفد الدعاية الرسمية كل ما لديها من خطابات مٌضَلِلَة وتطفو على السطح المستويات العالية من التوترات الاجتماعية وعدم التوازن الاقتصادي يصحو المواطن من غفلته ويبدأ في التعافي من وعكة الرماد الذي كان يٌذَرٌ في عيونه بانتظام ، حينها لا يبقى من خيار سوى ثورة شعبية تأتي على الأخضر واليابس أو التدخل الحاسم للقوات المسلحة. وبما أن إرادة الثورة على الظلم والاستبداد ليست حاضرة لدى الشعوب المغلوبة على أمرها ، بسبب الفقر والجهل والتضليل الأيديولوجي والإعلامي الرسمي ، فإن هذه الإرادة تكون في الغالب إلى جانب قوى الشر الذي لا بد منه أي القوات المسلحة التي تتفاوت بحسب عقيدتها العسكرية في الوفاء بالالتزامات التي دفعتها إلى قلب النظام السياسي السائد . وبالعودة إلى أدب الانقلابات العسكرية عموما وفي بلدنا موريتانيا خصوصا نجد أن الانقلابات العسكرية كانت أحيانا الخيار الأفضل ليس فقط للقطيعة مع الأنظمة الديكتاتورية الشمولية وإنما أيضا مع الأنظمة الديمقراطية الفاشلة . فعلى سبيل المثال لم تكن الثورة البرتغالية في أوروبا ، ثورة القرنفل" الشهيرة ، التي نفذها " نقباء أبريل" ( Les Capitaines d’Avril ) الشجعان انتفاضة عسكرية من أجل استحواذ العسكر على السلطة بل كانت تمردا عسكريا أسس لميلاد نظام ديمقراطي مدني ما زال حيا يرزق حتى اليوم في البرتغال .
ففي عام 1973 ، أخذت مجموعة من الضباط المحترفين تخطط ، مستفيدة من تذمر الجماهير الشعبية ، لتحرير المجتمع البرتغالي من قبضة نظام سالازار ( Salazar ) الشمولي الذي جثم على صدورهم ما يزيد على أربعين سنة. وقد أدت هذه الانتفاضة العسكرية إلى الإطاحة في 25 أبريل 1974 بأطول دكتاتورية في أوروبا الحديثة .
أما في حالة موريتانيا فلم تكن الانقلابات العسكرية ( 1978-2008) تحصل دائما بإيعازودعم مباشر من قوى خارجية بل كانت أحيانا انتصارا للشعب الغارق في غياهب الفقر والاغتراب السياسي ، لذلك كان الانقلابيون في كل مرة يبادرون إلى الإعلان عن فشل التجربة الديمقراطية القائمة التي انقلبوا عليها ويَعِدٌونَ بإرساء ديمقراطية حقيقية أي تأسيس نظام حكم ديمقراطي صلب وقوي تقتصر فيه وظيفة العسكر على الانشغال بقضايا الأمن والدفاع .
صحيح أن الانقلابات العسكرية في موريتانيا كانت في مجملها عبارة عن تصفية حسابات عنيفة أحيانا بين ضباط سئم بعضهم من تصرفات البعض الآخر ، وصحيح أيضا أن العودة إلى النظام الدستوري ولحظات الاستقرار السياسي التي مرت بها البلاد لم تكن تستمد مصدر استمراريتها من شرعية الحكم الديمقراطي الحاكم بل تستمدها أساسا من وعي القيادة السياسية الحاكمة ، أيا كانت هذه القيادة ، بعدم تجاوز الخطوط الحمراء ذات الصلة بمصالح القوى السياسية والأمنية الفاعلة في البلاد ، إلا أن الثابت الوحيد هو أن الانقلابات العسكرية التي تعاقبت في موريتانيا كانت بمثابة ذلك المَهْدِي السياسي المنتظر ، ذلك الشَرٌالذي لا بد منه لإصلاح ما يمكن إصلاحه : فبعض الشر أهون من بعض ، وكما تدين تدان.
إن معالم المشهد السياسي الذي بدأ يتشكل في أفريقيا بعد الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر يٌوحِي بأن سياسة التبعية وتمكين الدول الغربية من ثروات الشعوب الإفريقية لا يضمن البقاء في السلطة ، وأن الشعوب عندما تعجز عن الثورة على الأنظمة الظالمة فذلك يعني أن الشر الذي كانت تٌخَوَفٌ منه باستمرار سيتدخل في الوقت المناسب لتحريرها مرة أخرى من الأنظمة الديمقراطية المٌزَيَفَة الغارقة في التبعية وسوء التسيير وغياب الشفافية ومبدأ العقوبة والمكافأة والقائمة تطول ...
الدكتور سيدي محمد / يب أحمد معلوم
خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات