مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، كانت الإنسانية على موعد مع مرحلة جديدة من التطور والتوسع لم تشهد البشرية مثلها فى السابق الشيء الذى افرز اشكاليات فكرية كبرى لم تنل حظها فى النقاش خاصة فى الدول النامية.
كوفي عنان Kufi Annan, الامين العام للامم المتحدة مع مطلع الالفية, يقول انه "لابد من التاكيد والعمل على ان السوق العالمي يرتكز على قيم مشتركة وممارسات تعكس نوعا من القيم الاجتماعية الكونية وان تكون شعوب العالم تتقاسم مكتسبات وفوائد العولمة" . يبدو ان هذا الاطار الاممي القادم من القارة السمراء كان يستشعر اللحظة ويضع امام نصب عينيه خريطة التنمية العالمية وكيف ان البشرية تسير فى مواكب متباعدة وعلى ارضية لا تبدو مستوية وفى نفس الوقت تخضع لنظام اقتصادى وفكرى لا يعترف بثنائية التاريخ والجغرافيا.
ابريون دوركان Byron Dorgan ,سياسي ورجل اعمال, يقول انه ليس من الذين يعتقدون بضرورة بناء سياج حول بلده ولكنه يرى بضرورة وجود نوع من الشفافية حول قوانين وقواعد العولمة كنظام كونى بات يفرض نفسه على كوكب الارض.
وهنا أضيف مفاهيم جديدة لم تُدرس بعد بما فيه الكافية كعولمة الخوف وعولمة التسيير وعولمة القيادة وعولمة النموذج وانتهاء بعولمة الانسان وما يطرحه كل ذالك من اسئلة فى اطار مسارات التنمية البشرية من جهة والعلاقة بين الانسان ومحيطه الطبيعى من جهة اخرى. وهنا بالذات لا بد ان اذكر على عجالة بالفرق بين نشر المعرفة وانتاج المعرفة فالاول اصبح متاحا للجميع نتيجة وفرة وكثرة وسائط التكنولوجيا المختلفة والثانى هو مربط الفرس ذالك ان الكثير من شعوبنا اليوم هي مستهلكة للمعرفة بالدرجة الاولى ولا تسعى الى الاعتراف بذالك ولعل جائحة الكورونا اظهرت الامر اكثر على الصعيد العالمي حيث اصبحت هناك شعوب وحكومات تنتظرما ستجود به قرائح امم اخرى من معارف تنفع الناس وتمكث فى الارض.
ان عولمة النموذج فى بُعدها المؤسسي تطرح إشكالات وتساؤلات علمية وثقافية وفكرية قد تساهم فى تقليص الهوة بين عالم ما بعد الآلة وعالم لايزال لم يتخلص بعد من دهشة الآلة .. هنا يكون الحديث عن عالمين يتقاسمان عقارب الساعة ويفترقان جوهريا عندما يتعلق الأمر بوسائل ومفاهيم لإنتاجعامة والمعرفي خاصة .. فى هذا الخضم تتداخل المسارات وتتشعب زوايا النظر الى الموضوع .
مثلا عندما يقوم مسؤول مؤسسة عندنا (عامة أو خاصة ) بنسخ ولصق نموذج مؤسسى صُمم فى بلد غربي مختلف فى كل شيء فاعلم ان هذه المؤسسة المحلية لن تستطيع ان تقف سوية على أرجلها نظرا لكون الأرضية مختلفة تماما مثل محاولة إنسان عادى ان يسير فى الفضاء الخارجي لللأرض بدون بدلة فى تجاهل واضح لقوانين الجاذبية...ان الإطار المؤسسي قابل للانفتاح والتفاعل والاستفادة من النماذج العالمية ولكن لا بدمن مراعاة النسق المحلي والذي يتكون أساسًا من بيئة داخلية واخرى خارجية ولكل بيئة ميكانيزمات خاصة على اساسها يتم تقييم النجاح من عدمه ( project assessment)مع استشراف لواقع ومستقبل التحديات...
ان القيادة المؤسسية الناجحة هي التى تجمع بين المقاربات المحلية والعالمية وتنتهج نموذج قيادي يرتكز بالأساس على رؤيةمتجددة تتخذ من العنصر البشري طريقا إلى تحقيق الأهداف المؤسسية وذلك عبر الاستثمار فى الإنسان وتحسين مهاراته وسبر اغوار مواهبه على ضوء التحديات العصرية القائمة..وتشجيعه على الإبداع وخلق روح المبادرة وتحمل المسؤولية فى القول والفعل وهو ما سينعكس لا محالة على الاداء المؤسسي. كما ان الكثيرمن الدراسات اثبتت فعالية التنوع ( الكفاءة¸ العرق¸السن ) داخل المؤسسة .. ذالك ان حراك الأفكار والمفاهيم يؤثر ايجابا من خلالالمساهمة فى تطوير وتقويم وبلورة الرؤية المؤسسية بشكل عام.
ان الحديث عن العولمة المؤسسسية وانتاج المعرفة واشكاليات عصر الآلة يقود لا محالة الى ضرورة الحديث عن الانفتاح على اللغات الحية كوعاء للمعارف الكونية المتدفقة على مدار الساعة وهنا اجدد القول ان الاستفادة من المعارف الكونية فى مختلف المجالات مرهونة بالقدرات اللغوية والمنهجيةللباحث...وهنا استغرب من حكومات الدول النامية التى لا تستثمر فى انتاج المعرفة ولا تستثمر حتى فى حركة الترجمة وبالتالي تُفوت على شعوبها فرصة الاستفادة من النماذج الكونية فى مجالات علمية مختلفة فى اطار ما بات يعرف ب" القرية الكونية" او Global Village حيث اختلطت الثقافات وتشابكت الاسواق واختفت تحديات الجغرافيا تحت امواج ومعاول العولمة التقنية واصبحت معارف البشرية فى قبضة لوحة مفاتيح ( keyboard ) يتوفر عليها الجميع بغض النظر عن اكراهات المكان والزمان.
اننا نعيش فى مرحلة ما اسميه عولمة النموذج ورمقمنة الانسان, وهي مرحلة تحتاج الى تمعن وتدبر مع الاخذ فى الحسبان ضرورة اعادة النظر باستمرار فى المناهج الدراسية بغية تطوير وتهذيب الانسان كوسيلة لمسايرة موكب اخيه الانسان ما بعد الحداثة وعصر ما بعد الالة حسب تعبير بعض المفكرين, ولا شك ان اافضل السبل لمواكبة الحاضر يكمن فى الاعتراف بالتناغم بين التجارب المحلية والكونية مع احترام الحقوق الفكرية لابداعات الانسان فى مختلف المجالات والمُشاعة عبر محركات البحث الدولية (جوجل, ياهو الخ.. ) وهنا ستبقى محركات البحث على الانترنت تشكل اذرع العولمة التقنية وصمام امان الانتاج الفكرى... ومع تقادم الوعي وتكاتف وتكاثف التجارب فى الاطار المؤسسى سيتم طرح اسئلة من هذ الصنف: ماهي حدود العلاقة الاخلاقية والعلمية و القانونية بين عولمة النموذج ورقمنة الانسان؟
الدكتور محمد يحي عبد الودود
مواطن موريتانى مقيم فى الولايات المتحد الامريكية