عرفتك حكيما -أيها الطبيب- ترفل في ثياب الطهر والنقاء .. تزرع في النفوس غبطة و سعادة .. وتنقش على جدار الذاكرة صورة ملاك منقذ يعمل على تخليص الإنسانية من الأوجاع و الآلام.
فكنت رائدا قائدا يستغيث الملهوف بنصحه، و يستعين الزعيم بحكمته و رشده .
لهذا خرجت اليوم أحييك ؛ فوجدتني في طرقات موحشة لا أكاد اسمع فيها غير تأوهات شعب بات بين مطرقة الخوف من الكورونا و سندان الواقع الهش المطوق بإجراءات الحجر الصحي .
عدت إلى البيت و أخذت أمد الطرف من إحدى النوافذ لأحييك ولو من هنالك أيها الطبيب ، و أتأمل مليا في هذا الهدوء المطبق على المكان و الأضواء الشاحبة و الشوارع الخالية إلا من إشارات مرور تمت برمجتها على خواء ، لم تعرف الاحترام في سابق أيامها... لقد اصفر أخضرها تشاؤما و أحمر أصفرها تجاوبا مع اللحظة و ازور العابرون عنها ذات اليمين و ذات الشمال إلاك ..
فكنت أراك تعبر مسرعا غير آبه بمآلات الخوف و لا آبق على النظام .
و أمام هذا المشهد الرهيب المريب صرت أكاد أفر من نفسي و أكر إلى نحسي لتأخذني الهواجس بعيدا صوب قفار من الأوهام تتسع كلما حل الظلام .. فيأبى الاسترخاء الحلول إلى جسم أنهكه الكدح مذ عاث الحكام في الأرض فسادا حتى فارقت أسراب الطيور وكناتها و نفقت الأنعام في مراحها و ذبلت السنابل في حرائثها و غاصت الأسماك في الأعماق و صدئ الحديد وتبخر الغاز و ضاع الذهب .. فأطلت الكورونا بقرون متعطشة للأذى .
لقد كنت في شغلي و في عطلي أتنسم عبير الحرية و أستنشق عبق الصحة و العافية و أبيت -أحيانا- على الطوى و أظله (..) مرتاح الضمير ، و قد صارت هذه الأمور "قاب قوسين أو أدنى" من الضياع .. فهذا مخلوق وهمي خرافي يعبث بالبشرية .. يسلبها الإنسانية و الوجود .. وعاد الكل إلى مأواه إلاك .
عظم الخطب و اختارت الكورونا مغازلة الأيادي كي تتسلل إلى الأنوف مستمتعة بلحظات الهلع الطاغية على الحكومات ، فسقطت الحواجز بينها و المحكومين و تحول الخطر إلى خطرين (المرض و المجاعة) يهددان الاثنين معا (الحكام و المحكومين) .. و لم يعد هناك من منقذ بعد الله إلاك.
فتحية إجلال وإكبار أيها الحكيم المرابط على الثغور .. المدافع عن الإنسانية جمعاء .. المضحي بالنفس و الأهل والولد من أجل الحياة .
أحييك و أحيي فيك الإخلاص مهما انتقدناك في سالف الأيام .
أحييك أيها الطبيب و انت تبلسم جراح طفل تعثر أصيلالا في ساحة للسوق بها معترك و صدام ...
و قد كاد الأسى يسرقه ضحكة ممزوجة بالبراءة و الجمال لولاك .
أحييك و انت تعاسر إيقاف نزيف يهدد حياة شاب باغتته حفرة على طريق الأمل ظلت تتربص بكل عابر دون أن يأخذ حذره من ذلك .
أحييك و أنت تتصنع ابتسامة تأبى إلا أن تكون حزينة عندما تخرج من غرفة العمليات و نسبة الأمل تراها تتضاءل أمام ناظريك بسبب ضعف التجهيزات رغم المهنية و الاجتهاد .
أحييك و انت تخرج من عملية قيصرية منحت من خلالها البسمة لأم أعياها فقر الدم ، و أجهدها المخاض في أرض لم يعد بها غير أعجاز نخل خاوية، و لا من الأسباب إلاك .
أحييك أيها الهمام الحكيم و انت تشق طريقك نحو المعالي؛ تتغاضى عن زلاتنا و حماقاتنا بصمت بليغ .. تتناول الإبرة والمشرط بكل حرفية و مهنية لتقطع دابر الألم دون تمعر أو سخط .
أحييك بعدد انات من عالجت و بسمات من شفي على يديك و بعدد أقراص الحياة التي وزعت .
أحييك أيها الطبيب الواقف الآن في الصفوف الأمامية محاربا جنديا خفيا لا تخيفه الأنظمة بقدر ما يقتله الانتظام و الالتزام بنصائحك و توصياتك .
أحييك بحجم الرأفة التي تملأ قلبك وبلون ثوبك الناصع و بطعم شكر و عرفان معاوديك .
فلك أرفع القبعة و أضع الكمامة و ألوح بكلتا يدي دون تماس شكرا و تحية ...
الحسن ولد محمد الشيخ