لقد كتبت فى وقت سابق عن موضوع محاكمة الرؤساء،و توصلت عبر تلك المقالات المنشورة،قبل أشهر قليلة،على نطاق واسع،فى الإعلام المحلي،إلى ضرورة محاكمة تلك الأنظمة المتعاقبة،عبر محاكمة رؤسائها و رموز فسادها،لكن بشرط،أن تحاكم تلك الأنظمة المعنية كلها،فلا تقتصر التحقيقات و الإثارة الإعلامية و المحاكمات الفعلية، على رئيس دون آخر،و لا على نظام، أو حقبة دون أخرى،و أوردت أمثلة فساد مظنون،و ملامحمه ،لدى أغلب الأنظمة السياسية التى حكمتنا،منذو 1960 و إلى اليوم. و المحاكمة قد لا تعنى الإدانة تلقائيا أو فى المحصلة،لكنها تعنى التوصل إلى حكم قانوني مبرر و مؤصل بالأدلة و الملفات و القوانين المعمول بها،أما تنفيذ العقوبة،فمرتبط بشروط أخرى،قد تتهيأ و قد لا تتهيأ!.
و لعل ما قد يترتب على هذه المحاكمات المزعومة،أو المطلوبة بإلحاح ،على رأي البعض،دون إدراك لمخاطرها و انعكاساتها،فى حالة عدم توفر شروطها،و دون تحرى البحث و التأمل الجاد المتئد،أنه قد لا يستفاد من مثل هذه الإثارة الفوضوية،سوى تخويف نسبي للمفسدين،و درء نسبي للعقلية و السلوك المرتبط باعتقاد مشروعية الفساد. و إن كان هذا المكسب المأمول مهم، إلا أنه إن قورن، بالانعكاسات غير المستبعدة،قد يكون غير مسوغ، فى الوقت الراهن،و سيظل ربما رغم محاذيره و حساباته،غير المكتملة،خطوة شجاعة فى الاتجاه الصحيح،لكنها قد لا تخلو من التهور و تصفية الحسابات، بنكهة أو بطعم ظاهر أو خفي!. الاندفاع فى هذا الاتجاه المحاسبي،دون حساب دقيق،غير مأمون العواقب، بكلمة واحدة،و تركه تماما، مستحيل و مشجع للفساد و المفسدين،و مهدد لكيان الدولة بالانهيار،و قد يحولها بشكل محض، إلى دولة فاشلة،تحكمها المافيا،التى تتلون فى كل مرحلة، كالحرباء،التى تأخذ لون محيطها البيئي،للاختفاء،دون إثارة الانتباه!.
و رغم أننى سردت نماذج من التهم الموجهة لبعض الرؤساء السابقين، و طريقة تعاملهم مع الشأن العام الوطني،مما يستدعى محاكمتهم حضوريا أو غيابيا،و لو اقتصر الأمر بالنسبة للمتوفى، على استذكار مثالبه المروجة لها عند البعض،أيام التأسيس،عسى أن لا تتكرر،بإذن الله. و يمكن القول، فى هذا الاتجاه،بأن نظام ولد داداه المؤسس،رحمه الله، أقحمنا فى حرب الأشقاء فى الصحراء الغربية ،و كرس التحالف مع المغرب الشقيق،على حساب الأشقاء الصحراويين والجزائريين،و تأثرت موريتانيا اقتصاديا و بشريا و أمنيا،حتى أضحت محمية فرنسية و مغربية،تحت رحمة طائرات "الجكوار" الفرنسية و قوات المغرب على الأرض،خصوصا فى الشمال، عندنا فى أطار و غيره،على ما أذكر!.
و قد قرب ولد داداه،رحمه الله، أخويه ،أحمد و محمد لمين و وزرهما،و مهما كانت حجة "و إجعل لى وزيرا هارون أخى"،مع ربما حجة، قلة الكفاءات فترة التأسيس،كما تولى أحمد ولد داداه البنك المركزي،و عموما اتسم نظام ولد داداه بالعفة و عدم التلوث بالمال العام،رغم قلته أنذاك.
و لاحقا جاء نظام معاوية،الذى نكل بخصومه فى مناسبات و منعطفات عدة،و جاءت ردة فعله على محاولات انقلابية عرقية،حسب وصف النظام،اكتوبر 1987،و نوفنمبر 1990،أكثر من الازم ربما،فتورط فى ملف حقوقي مزمن،كما عبث بعض العسكر و المدنيين،فترة حكمه،فى المال العام،و استغل بعض أقاربه النفوذ و الزلفى من دفة الحكم،فازدادوا ثراءا على ثرائهم،بطرق مشبوهة أحيانا،رغم أسبقية بعضهم للتجارة،قبل وصول ابن عمهم معاوية للسلطة.
أما عزيز رغم تجاوزاته و تخبطاته الكثيرة،فكانت جل فضائحه الفادحة ،هو و بعض أقاربه و مقربيه،مع المال العام المستباح،و على نطاق واسع فظيع!. و ستلاحظون بسهولة،أننى ركزت فى هذا المقال،خلاف جردى، مقالات سابقة، توسعت فيها مع تجربة رؤساء آخرين،إلا أن هؤلاء الرؤساء الثلاثة،المذكورين فى هذا المقال،تولوا حكم 50 سنة،من أصل 60 سنة تقريبا، منذو استقلال هذا الوطن،الغني بثرواته ،الفقير المرتهن، بسبب سوء تسيير أنظمته و ضعف وعي أبنائه و شعبه!.
نعم حكم هذا الثلاثي المذكور، على النحو التالى زمنيا: المخطار رحمه الله 18 سنة+معاوية 21+ عزيز 11=50. أما اليوم فتجرى التحقيقات فقط، فى شأن ملفات مالية محصورة، من زمن عشرية ولد عبد العزيز،تحت قبة برلمان، يرأسه ضابط متقاعد من البحرية الوطنية،الشيخ ولد باي،الصديق السابق لهذا الرئيس السابق،و صاحب التصريح المثير "متليت آن و متلات موريتان"،كما أن عضو لجنة هذه التحقيقات البرلمانية،ولد الواقف،الوزير الأول الأسبق،مشمول فى ملف الخطوط الجوية و الأرز. السؤال المطروح،هل ستوجه هذه اللجنة اتهمات ضمنية للمستجوبين أو بعضهم،و كيف سيكون تعامل السلطات التنفيذية و القضائية،من بعد ذلك؟!.
و هل ستصدر المحاكم، أحكاما قضائية صارمة تناسب الجرم المتوقع ظهوره بجلاء؟!،و هل فى عهد الحليف و الصديق السابق، الرئيس الحالي، محمد ولد الشيخ الغزوانى،سيدخل عزيز السجن أم سيبادر برد المليارات فقط؟!. أم أن الملف كله فى طريق الطي و الالتفاف، بصيغة ما،أم أن جنرالات نظام 2005 و ما تولد عنه من تقدمات و نياشين، مستعدين لتقديم قرابين،حتى لا تتوسع المحاسبات،تحت ضغط الانكشاف و إلحاح الرأي العام الوطني المتنامى؟!.