يعلق كثير من المهتمين بالسياسة من الموريتانيين على انتخابهم النيابي والبلدي لهذا العام آمالا عراضا، حتى قال الأستاذ مسعود بن بلخير إنه سيكون ثورة ديموقراطية سلمية. وهي آمال، يبنونها على ما يؤملون من أن يكون الانتخاب نزيها، وما يرون من أن البلد لا يحتمل خمس سنين أخرى مما هو فيه، وأن الحكومة تدرك ذلك. لكن هذه الآمال تغفل عن أن للحكومات المتعاقبة على حكم البلد ومُواليها تقويما آخر، فهم يرون أن "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، وأن البلد بخير. وهما تقويمان، ينظر كل منهما إلى حال صاحبه، ولما كانت الحكومات وموالوها هم الذين يستأثرون بثروة البلد، ويجعلون للشعب ما يكرهون من المرض، والجوع، والخوف، والقتل، والسرقة، والديون، والجهل، وانفلات الأمن، والبطالة، والغلاء، وتفشي الفساد، وامتداده طولا وعرضا، وفقْد الأخلاق على وجه، ينذر بأن البلد مقبل على كارثة، (ليس لها من دون الله كاشفة)؛ لأن الأخلاق إذا فقدت، فتح الله من أبواب الشر على فاقديها ما لا قبل لهم به، كان حتما أن يرضى أولئك، ويسخط الشعب.
وشرْط نزاهة الانتخاب أن تكون الحكومة التي تنظمه وتشرف عليه وطنية، وتخشى على بلدها عواقب التزوير، وما قد يترتب عليه من عجْز الشعب أو بعضه عن تحمله، والصبر عليه؛ لأنه يعني أن الحكومة تريد أن تحمله على الرضا بما تصنع به، وأن يقتنع بأنه قدره. الشرط الثاني أن تكون الحكومة عارفة بفلسفة الديموقراطية، مقتنعة بفضائلها، وأنها تغمد السيوف، وتحقن الدماء، وتصون الأعراض والأموال، وتضبط نزوات السياسيين، وتنظم تنافسهم، وتساوي بين الشعب في فرص الحكم، وتوطِّن السلم الاجتماعي، وتتيح التباري في خدمة الدولة والمجتمع، وتحول بين الظَّلَمة والفاسدين والحكم، وتيسر إخراجهم منه إذا وصلوا إليه، من غير تبعة، وتَغُلُّ الأيدي عن المال العام، وتراقب الحكومات، وتفصل بين السلطات، إلخ.
الشرط الثالث أن يكون الذين يتعاطون السياسة مقتنعين بالديموقراطية، نظاما وفلسفة في الحكم، وفكرا وأخلاقا، كائنة ما كانت نتائجها، لهم أو عليهم. وما أدري: هل تتوافر هذه الشروط في الحكومة ومن يتعاطون السياسة في موريتانية.
وتغفل هذه الآمال عن حقيقة مجالس النواب وصلاحياتها، ومجلس النواب مؤسسة تشريع ومراقبة. والقانون في الدول غير الديموقراطية كـ"رأس الذئب"، يلويه الاستبداد كيف يشاء، وسوط، يجلد به من يخالف، ويكمم فمه، ويسوغ ما يفعل، إن احتاج إلى مسوغ، ثم ينساه، ويجعل قانونه هواه. وليس في وسع من يدخل مجلس النواب أكثر من أن يصدع بحق غير منكر، ويكشف عوار سياسة، غيرَ مجهول. والصدع بالحق، وإسماع الصوت جديران بأن يحدثا من الوعي ما يمكن أن يترتب عليه أن يتولى الشعب أمره في قابل الأيام، ويحمل الاستبداد على الرحيل طوعا أو كرها. وقد يكون هذا أعظم ما يرجى من فوز المخلصين في هذا الانتخاب، في السنين الخمس القابلة، أما التأثير في الحكومة، وتغيير سياستها، فما يطمع فيهما من يعرف موريتانية، وثقافة أهلها وأخلاقهم وأخلاق من يقودونها، وكيف يفكرون. ومن الأهمية بمكان أن يخوض المخلصون من الوطنيين هذا الانتخاب؛ ليظفروا منه بما استطاعوا، فإنهم إن عجزوا عن التغيير، وهم عاجزون لا محالة، لم يعجزوا عن تعرية الساسة للشعب، وكيف يدار البلد، ومن يديره، وإلى أين يساق.
وقد أعلنت ثلة من الشباب الذين يؤنس في خطابهم الصدق والوعي والإخلاص، وحب الشعب، والغيرة على الوطن، أنها تزمع خوض هذا الانتخاب، لعلها توقد شمعة في النفق المظلم، وتبصِّر الشعب بما يفعل به المتحالفون عليه، الذين جردوه من كل شيء، واستأثروا دونه بكل شيء، وأروه ما يبلغ حب الدنيا بالإنسان من الظلم، وغلظ الكبد، وقسوة القلب. لقد قرن هؤلاء الشباب قولهم بالفعل، فأغاثوا المنكوب، ونصروا المستضعف، وانتصفوا من الظالم للمظلوم، ما استطاعوا، لا يريدون جزاء ولا شكورا، وتطهَّروا من التعصب للعنصر، والشريحة، واللون، والقبيلة، والعقيدة الحزبية والسياسية، وجعلوا مشروعهم إقامة دولة العدل والقانون، ورفْع الظلم والضيم عن كل مظلوم ومضام، فأثبتوا بأقوالهم وأفعالهم رجولتهم، في زمان، خارت فيه عزائم الشباب والكهول، واستعبدتهم المطامع، وحظوظ النفس، كما أثبتوا أنهم هم أمل موريتانية، فمن حقهم عليها أن تعينهم على بلوغ ما يريدون بها، فتنتخبهم، وتكون معهم حيث كانوا، ويقول من لم يتح له أن يكون معهم من أهلها: (ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما). أما خذلانهم، وانتخاب غيرهم، فكفران، لا يجني منه الموريتانيون إلا إطالة عمر الفساد، والمأساة التي يتقلبون فيها منذ كانت هذه الدولة.