احتضن قصر المؤتمرات في العاصمة الموريتانية نواكشوط، يوم الجمعة 6 كانون الثاني/ يناير الجاري، نشاطاً افتتاحياً لاحتفالية نواكشوط عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي لعام 2023، وذلك ضمن برنامج منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، للاحتفاء بعواصم الثقافة في العالم الإسلامي، وهي الاحتفالية التي تهدف المنظمة من خلالها إلى الترويج لأهمية الرأسمال الثقافي، والرغبة في تغيير صورة هذه المدن نحو الأفضل، بحيث تتحول إلى وجهة ثقافية، على نحو يُكسب كل مدينة منها جاذبيةً وقوةً ناعمةً.
عن أهمية اختيار نواكشوط، قال الباحث والأستاذ الجامعي حماه الله ميابى، لرصيف22: "هذا الحدث مهم جداً بالنسبة إلى المدن، لأنه اعتراف من المنظمة الإسلامية لهذه المدينة بدورها في الثقافة الإسلامية، نشراً واستضافةً وتجديداً، وتالياً هو بمثابة الشهادة للمدينة بأنها قد حققت أهدافاً أو مساعي من مساعي المنظمة، وكذلك شهادة من ناحية اعتراف المنظمة بدور تلك المدينة تاريخياً وبأن لديها من الموروث الثقافي والإسلامي ما يؤهلها أو يجعلها تتبوأ مكانةً كهذه المكانة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هو فرصة طيبة للمدينة من أجل تنميتها ثقافياً، وإقامة بنية تحتية ثقافية ووضع برنامج طموح لها".
أشار المتحدث إلى أن البرنامج "يتألف من شقّين، أحدهما تضعه المنظمة الإسلامية وآخر تضعه الدولة المستضيفة، وفي ما يتعلق ببرنامج المنظمة فهو برنامج غني جداً، وسيضيف إضافات مهمةً وجذريةً. وهو عميق جداً بالنسبة إلى البنية الثقافية ومقومات الثقافة في نواكشوط، والبرنامج الوطني لم يوضع بعد عموماً، لكن مستهلّه تألف من فيلم وثائقي عن مقومات الثقافة الموريتانية واحتفال بالافتتاح وندوة علمية بُرمجت خلالها ست محاضرات، مع معرض يخلّد ويجسد أهم المرافق الثقافية الموريتانية وستكون هناك عروض سينمائية".
شاركت في النشاط الافتتاحي وفود تمثّل مختلف الدول الإسلامية، وتضمّن عروضاً فنيةً، وشروحاً تعريفيةً عن "محاضر" (مدارس تقليدية في موريتانيا) العلم الموريتانية والمخطوطات التاريخية والمواقع المسجّلة على قائمة التراث الإسلامي.
جدل النخب
حظي اختيار العاصمة الموريتانية نواكشوط من طرف منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، بالكثير من الترحيب والغبطة، لكنه في الوقت نفسه أثار الجدل حول استعداد المدينة لحدث مثل هذا، وهي العاصمة المفتقرة إلى الحياة الثقافية والبنى التحتية الثقافية حسب البعض، وقد دوّن الكاتب والدبلوماسي الموريتاني محمد السالك ولد إبراهيم، عن اختيار نواكشوط قائلاً: "مما يثلج الصدر ويدعو للاعتزاز والفخر أن يتم تكريم بلادنا باعتماد نواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية. (...) إذا وضعنا جانباً -ولو للحظة- هذا الشعور العارم بالزهو والارتياح والتفاؤل المشروع، أليس حريّاً بنا أن نتساءل بكل جدية عمّا أعددناه كبلد وكدولة وكمجتمع للنهوض فعلياً بحمل هذا التشريف العظيم الذي ألقي على عاتق بلادنا؟"
واستمر ولد إبراهيم في تساؤلاته حول مكانة الثقافة في العاصمة الموريتانية قائلاً: "لا شك في أن هذا التساؤل يأخذ أبعاداً جديةً أكثر إذا تذكرنا أن بلادنا سبق لها أن اعتذرت رسمياً (...) معللةً قرارها بعدم استعداد موريتانيا للحدث بشكل عام بسبب غياب البنى الثقافية والمنشآت العامة القادرة على احتضان الاحتفالية".
مضيفاً: "إذا تجاوزنا جدل معضلة غياب البنى التحتية الثقافية (...) فأين هو المحتوى الثقافي وأين هي المنتجات الثقافية التي أعددنا لقرى الضيوف في المجالات الثلاث: التربية والثقافة والعلوم؟".
من الثقافة إلى "المدينة الريفية"
فتح النقاش حول الحدث، الجدل حول العاصمة وحكاياتها وتطورها وتاريخها وواقعها اليوم، وهي المدينة الحديثة والمستحدثة لتكون عاصمةً للبلاد، المدينة التي تحدّث عنها عالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ، في مقال قديم له عنها بعنوان "نواكشوط: عاصمة بدوية؟"، المقال الذي نُشر بمناسبة الاحتفاء بخمسينيتها ضمن كتاب جماعي "نواكشوط: خمسون سنةً من التحدي"، (وزارة الثقافة، 2006).
بمناسبة تلك الاحتفالية، تحدث الباحث عن سياق تأسيسها، قائلاً: "من المعروف عن مدينة نواكشوط في سنة 1950، أنه لم يكن يسكن فيها أكثر من 500 أسرة لأن فيضانات استثنائية دمّرت أكثرية مساكنها في هذه السنة، وذلك ما كان سبباً في إحصاء المنازل قصد تقديم المساعدة. ولم تخلف المياه وراءها إلا القلعة الصغيرة التي بُنيت عام 1929، وتقرّر بناء القرية في مكانٍ أكثر ارتفاعاً بالقرب من الكثيب الذي يحدّها من الغرب. وتدخّل الإدارة يفسر تخطيط المربعات ‘على الطريقة الأمريكية’ لمدينة لكصر والذي يختلف جداً مع تشابك أزقة الكصور القديمة. فعلى هذه البلدة الصغيرة ستُزرع، إن صحّ التعبير، عاصمة موريتانيا التي كانت تُدار شؤونها انطلاقاً من المدينة السنغالية سان لوي. وقد أبدى المنتخبون الإقليميون الموريتانيون في المجلس العام لإفريقيا الغربية الفرنسية، غداة الاستقلال سنة 1060، رغبتهم الكبيرة، في وجود عاصمةٍ لبلدهم على أرضهم ليتم اختيار نواكشوط سنة 1957، بدلاً من مواقع أخرى كانت مرشحةً لهذه الوظيفة، فقد اقترحت مثلاً نواذيبو وروصو وغيرهما لكن نواكشوط كانت تشكل الصلة بين شمال البلاد وجنوبها وتقع على شاطئ البحر. لذلك عُقد فيها تحت الخيمة أول اجتماع لمجلس الحكومة يوم 12 حزيران/ يونيو 1957".
تساءل الباحث حينها: "هل هذا التجمّع الذي يضم أكثر من ربع سكان موريتانيا أصبحَ مدينةً بالفعل؟ (...) وهل يتعلق الأمر فقط بمجموعةٍ من الأراضي المحصورة والقطع الأرضية الفارغة المنسقة بصفةٍ عشوائية؟ (...) وما الذي يمكن أن نقوله عن حضرية ومدينيّة نواكشوط وسكان نواكشوط والعلاقات التي تقوم بين المدينة والعالم الريفيّ الذي تترسّخ فيه البداوة وتنحدر منه المدينة؟".
هذا النقاش حول المدينة وأدوارها في المجتمع الموريتاني، أعاد الحديث عن التحولات التي حدثت للمدينة وما يسميه البعض "تَرْيِيفَ" المدينة بسبب الهجرات من الريف إليها، والتي سببها الجفاف وحرب الصحراء والانقلابات العسكرية، وتحوّلها إلى بادية كبرى بعد أن كانت تسير نحو التمدن، وتحدث البعض بحالة من النوستاليجيا إلى فترة السبعينيات والحياة الثقافية وتباكى البعض على الأنشطة الثقافة وقتها، وعلى دور السينما التي كانت منتشرةً في العاصمة، والتي اختفت اليوم وغيرها من ملامح التردي الثقافي.
الكاتب والصحافي الموريتاني محمد المنى، سرد في منشور له على موقع فيسبوك بعض الذكريات عن المدينة: "في السبعينيات والثمانينيات كانت مدينة نواكشوط، وبحق، ‘تفوح ثقافةً’ وفكراً وعلماً؛ ففيها جمعيات ثقافية عدة ونوادٍ مسرحية وروابط فنية، والعديد من دور العرض السينمائي، ومراكز ثقافية عربية عدة، وكانت مكتبات المطالعة متوفرةً وقاعاتها لا تكاد تجد فيها مقعداً شاغراً، ودار الثقافة والمتحف الوطني مزارين يوميين للجموع من مختلف الأعمار. وكانت المدارس الثانوية تعج بالأنشطة الثقافية (شعر ومسرح ورسم)، وقلَّ يوم يمر من دون أن تشهد فيه دارَا الشباب (القديمة والجديدة) عرضاً مسرحياً أو محاضرةً ثقافيةً أو ندوةً فكريةً أو أمسيةً شعريةً، وكانت القاعات تمتلئ عن آخرها بجمهور كبير مولع بالثقافة وبالأنشطة الثقافية".
حسب الباحث حماه الله ميابى، "كانت المدينة في بداياتها بالتأكيد منظمةً شيئاً ما، والقلة التي كانت تسكنها من المتعلمين المندمجين في الثقافة العصرية والحديثة، كما تعرضت خلال السبعينيات بالتأكيد لموجة من الهجرة سواء تلك الناجمة عن أجواء الحرب التي دخلتها البلاد عنوةً، أو بسبب الجفاف الذي ضرب البلد خلال السبعينيات. كل تلك العوامل أدت إلى هجرة قوية جداً أحدثت ضغطاً على المرفأ الناشئ للمدينة، مما جعلها بدل أن تتطور باتجاه المدن تذهب إلى التطور نحو ‘الترييف’ (الأرياف)، ونستخدم هذا المصطلح أحياناً، وهو أن نواكشوط تريَّفت بعدما كان من حقها أن تتمدن، وهذا شكّل ضغطاً على المدينة، خاصةً أن الدولة عجزت في تلك السنوات، لأننا في تلك المرحلة كنا نعيش أوضاعاً سياسيةً مزريةً، وانقلابات سياسيةً متتاليةً إلى آخره، فعجزت الدولة عن تنظيم الهجرات، وتالياً بقيت المدينة الصغيرة محفوفةً بهوامش وطوق من الأحياء الشعبية التي كانت أكبر من المدينة الأصل".
وأكد على أنه "كانت هناك تحديات كبرى للدولة في بداية الثمانينيات والتسعينيات، وما زالت آثارها حتى اليوم".
وأضاف: "لكن منذ العقد المنصرم، بدأت المدينة تخرج من هذا القمقم بفضل التخطيط والترسيم وشق الطرق وإقامة البنيات، وقد أقيمت في المدينة مجموعة البنيات الثقافية الأساسية جداً، مثل الصرح الجامعي الكبير الذي أصبحت تتمتع به، والقاعات والمراكز، وهي الآن أفضل بكثير سواء من السبعينيات أو الثمانينيات، مع الجهد المحمود الذي بذله رجال السبعينيات وعلى رأسهم أب الأمة الرئيس الرحال المختار ولد داداه، وغيره من رجالات الثقافة الذين بذلوا جهوداً كبيرةً، إذ أنشئت آنذاك دار الشباب القديمة ودار الشباب الجديدة ودار الثقافة وغيرها من المرافق التي كانت قائمةً حينها، ولكن أضيف إليها اليوم الكثير من المرافق. صحيح أن صالات السينما تراجعت كثيراً، ولكن هناك أشياء تلمح أنها ربما تنشأ من جديد، وربما دور السينما تراجعت في العالم كله وليس في موريتانيا فقط، وكذلك المكتبات".
رصيف 22