تحبيب العربية إلى العموم هو هدف يشغل بال صانع المحتوى الموريتاني محمد لغظف ولد أحمد، ويتصدر اهتمامه، ما جعله يطلق مشروع "الأمالي" الذي هو عبارة عن منصة مهتمة باللغة العربية وآدابها. المشروع الذي حقق زخماً على الشبكة (254 ألف متابع على فيسبوك، و288 ألف متابع على تيك توك)، فتح النقاش حول العربية وحضورها مجدّداً في موريتانيا.
في حديثه إلى رصيف22، قال محمد لغظف ولد أحمد: "حاولت عبر تجربة الأمالي أن أسدّ فراغاً في صناعة المحتوى الموريتاني. عادةً، يوجّه صانع المحتوى الموريتاني خطابه إلى الناطقين بالحسانية، فرأيت أن يكون الخطاب بالفصحى لكي تتسع دائرة المتلقّين من مئات الآلاف، إلى مئات الملايين".
وأكد على أن "الهدف الرئيس للأمالي هو تحبيب اللغة العربية إلى الناس، والتأثير على الآباء لكي يضعوا تعليم الأدب العربي للطفل في مقدمة الأولويات، وقد بدأ ذلك يتحقق والحمد لله، فقد رأيت مدارس في السودان والسعودية تعتمد مقاطع الأمالي في تدريس التلاميذ، وأرجو أن يتطور التأثير إلى الأحسن إن شاء الله".
محمد لغظف ومشروعه الأمالي وغيره من المبادرات جزء من حراك/ مشهد/ نقاش لا ينتهي في موريتانيا حول العربية والتعريب في موريتانيا، فما هي تفاصيل النقاش والجدل؟
تمكين العربية في موريتانيا
لا تحلّ ذكرى اليوم العالمي للّغة العربية أو أي مناسبة على ذلك المنوال أو أي حدث يومي أو نقاش عمومي، إلا وتبرز في موريتانيا قضية العربية وحضورها في البلد، وأحياناً يأتي النقاش من دون مناسبة. يحدث هذا بالرغم من أن الدستور ينص في مادته السادسة على أن العربية هي اللغة الرسمية للدولة، إذ تقول المادة إن "اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية. اللغة الرسمية هي العربية".
غير أنّ ذلك يعدّه كثرٌ مجرد حبر على ورق، ويرون أن الفرنسية ما تزال تسيطر على الإدارة الموريتانية بشكل كبير، وهو أمر يلاقي رفضاً بين بعض النخب التي تحبذ العربية ويحدث النقاش بينها وبين النخب الفرنكوفونية التي ترى أن موريتانيا متعددة الثقافات والأعراق وأن الفرنسية أصبحت بحكم الواقع ضرورةً إداريةً لتمثيل غير الناطقين بالعربية في الدولة، وأيضاً، هي لغة وسيطة بين بعض مكونات الشعب، ويعدّها البعض بمثابة غنيمة استعمار. عن هذا الجدل قال محمد لغظف ولد أحمد: "أظن أن تأسيس الدولة الموريتانية كان منحرفاً إذا ما قورن بواقع الدول المستقلة التي لديها لغات وطنية، فجيل التأسيس فتح عينيه على فرنسا ولم يكن يعرف سواها، فحصل له الانبهار الكبير الذي تأسست الدولة عليه في كل ميادينها.
بعد ذلك اطّلع المختار ولد داداه، على تجارب الشعوب المستقلة، فأراد أن يغير من واقع التعليم ويعطي للعربية القليل من حقها، لكن فرنسا لم تتركه يفعل ذلك".
مضيفا: "الآن، ما دامت الدولة تقول إنها عربية وتفتخر بعروبتها في المحافل العربية، فينبغي أن يشاهَدَ ذلك على أرض الواقع: الفواتير بالفرنسية، قوائم المطاعم وأسماؤها كذلك، وأيضاً وثائق رخص الشركات بالفرنسية، ولوحات ترقيم السيارات بالفرنسية، كما أن الطالب في المدرسة الابتدائية يدرس حصص الفرنسية أكثر من حصص العربية. هذا أيضاً ينطبق على قطاعات الصحة ومنشورات البضائع المستوردة. إذاً أنتَ لست أمام دولة عربية، بل أمام كائن مشوه لا تنقصه سوى راية فرنسية حتى تتبين ملامحه".
إشكالية الاستقلال اللغوي
كان المختار ولد داداه، وهو أول رئيس لموريتانيا، قد تطرق إلى جدل اللغة في موريتانيا وذلك في مذكراته "موريتانيا على درب التحديات"، إذ قال: "بعد احتلال البلاد، انتهجت الإدارة الفرنسية إزاء تعليم اللغة العربية موقفين مختلفين في جنوب البلاد وشمالها. ففي حين أخذت هذه الإدارة موقفاً متسامحاً، بل مشجِّعاً إلى حد ما، للّغة العربية (إنشاء المدارس المزدوجة) في الشمال، حاربتها في الجنوب وأحلّت محلها تدريجياً اللغة الفرنسية. غير أن ذلك اقتصر أساساً على المراكز القروية الكبرى وناهضته الأوساط الدينية وبعض سكان المدن. وعليه، فإنه إذا كان قد تم فتح مدارس ابتدائية مبكراً في بعض مدن الضفة -كانت أولى تلك المدارس قد فُتحت في كيهدي سنة 1905- فإن معظم الأسر قد عارضتها من منطلق أنها لا تريد إرسال أبنائها إلى ‘مدرسة الكفار’، شأنها في ذلك شأن المناطق الناطقة بالحسانية وموقفها من أولى المدارس التي فُتحت فيها. وقد لجأت الإدارة الفرنسية، في هذه الحال كذلك، إلى استخدام القوة أحياناً لفرض تعليم لغتها. وعلى الرغم مما استخدمته الإدارة من وسائل، فإن سكان إحدى قرى كوركول قد استمروا في رفضهم القاطع لإرسال أبنائهم إلى ‘مدارس الكفار’ حتى استقلال البلاد. وفي المقابل، ظلت المدارس القرآنية قائمةً في معظم قرى وادي النهر -إن لم نقل في كلها- كما في الأحياء البدوية البيضانية".
وأشار إلى أن: "عداء الأطر الجنوبيين الناطقين بالفرنسية لتعليم اللغة العربية لا تشاطرهم إياه، البتة، الأغلبية الساحقة من السكان الذين ظلوا شديدي التعلق باللغة العربية بوصفها لغة القرآن. ولهذا السبب، فإنني على ثقة من أنه لو نُظم استفتاء شعبي حول هذه المسألة في وادي النهر، فإن الأغلبية الساحقة ستصوت لصالح هذا التعليم. ورأيي أن لهذا العداء سببين رئيسيين، أحدهما مصرح به وذو بعد ثقافي. فهؤلاء المواطنون المُفَرْنَسُون المنحدرون من الجنوب يؤكدون أنهم لا يريدون أن يتعرّبوا مخافةَ أن يُدمجوا ثقافياً من قبل مواطنيهم الناطقين بالحسانية. ولم يكن هذا السبب المصرح به دوماً أهمّ الأسباب بالنسبة للقائلين به".
وأكد على أن السبب الرئيس لهذا الرفض ذو بعد اقتصادي واجتماعي وإن لم يطرحه المعنيون من هذه الزاوية.
شمال ... جنوب
وقال: "تأخر التمدرس باللغة الفرنسية في موريتانيا الناطقة بالحسانية مقارنةً بمنطقة النهر خلال العهد الاستعماري، جعل الإدارة الفرنسية مجبرةً على اكتتاب معظم موظفيها ووكلائها المحليين من الجنوب الموريتاني الذي لم يكن مع ذلك يوفر لها كل حاجياتها (...) وكانت النتيجة إبان الاستقلال أن معظم الوكلاء الموريتانيين في الإدارة ينحدرون من جنوب البلاد، بينما ارتفعت نسبة تمدرس الناطقين بالحسانية بشكل ملحوظ بعد ذلك وأصبحوا ينافسون مواطنيهم من أهل الجنوب في الإدارة التي تمثل وقتها أهم سوق للعمل في البلاد. ومن هنا كانت مخاوف هؤلاء من أن يفقدوا في النهاية مصدر رزقهم المتمثل في مناصب الوظيفة العمومية. وبغض النظر عن مردود تلك الوظائف المالي، فقد كانت -وما تزال- تمنح أصحابها منزلةً اجتماعيةً مرغوباً فيها، وتمثل قنطرةً للعمل السياسي. كان لهذه المخاوف ما يسوِّغها إلى حد ما، خاصةً أن موريتانيا المستقلة كان عليها بالضرورة إعادة الاعتبار لتراثها الثقافي بإحياء موروثها العربي الإسلامي الذي عانى كثيراً من وطأة الاستعمار. كما عانى موروثها الإفريقي الصرف الذي يتعين إحياؤه كذلك".
ورأى الرئيس الراحل في مذكراته أنه "يتعين بالضرورة على أي نظام يقود موريتانيا، مهما كانت طبيعته، أن يوائم بين التجذر في الداخل الذي لا غنى عنه، وبين الانفتاح الضروري على العالم الخارجي الذي يلزم التعاون معه. ومن هذا المنظور، فإن تعلم اللغة الفرنسية بوصفها لغة التواصل الكبرى المتاحة لنا، لا غنى لنا عنه إلى جانب اللغة العربية. وبذا تكون بلادنا دوماً بحاجة إلى خدمات كل مواطنيها الناطقين بالعربية والفرنسية والمزدوجين".
وأكد على أنه "لا ينبغي لنا أن نشعر بأي نوع من مركب النقص تجاه اللغة الفرنسية على الرغم من كونها لغة هيمنة أجنبية. كما لا ينبغي أن نتصف بهذا الشعور بالنقص تجاه اللغة العربية. فكل منهما لغة حضارة عظيمة مما يجعل منهما تالياً لغتي انفتاح. كلتاهما تسهل اندماجنا في العالمين الإفريقي والعربي الإسلامي اللذين ننتمي إليهما معاً".
مسيرة طويلة
مسار التعريب في موريتانيا شهد مراحل عدة، إذ حدث في 1959، إصلاح جاء ليعدل النظام التربوي الذي رسخه المستعمر، ليرتفع تدريس اللغة العربية إلى 10 ساعات من أصل 30 ساعةً في المرحلة الابتدائية، مع بقاء المرحلتين الإعدادية والثانوية باللغة الفرنسية تماماً.
ثم حدث إصلاح عام 1967، أتى بعد احتجاجات ومظاهرات وأحداث تؤلم إلى اليوم النخب الموريتانية، وكان ذلك في العام 1966، عقب أحاديث حول التوجه نحو التعريب، وجدل بين مطالب به ورافض له، وتم وقتها إحداث ازدواجية لغوية بين العربية والفرنسية.
بعد ذلك أتى إصلاح 1973، ليصل نصيب العربية في هذا الإصلاح إلى 120 ساعةً من أصل 180 ساعة تدريس في المرحلة الابتدائية، وإقامة شعبتين عربية ومزدوجة (عربية فرنسية) في التعليم الثانوي، وفي سنة 1979، أقدمت السلطة على إنشاء نظاميْـن تعليميين، أحدهما "فرنسي"، والآخر مُعرّب، لتكون النتيجة انخراط الكثير من الطلاب الموريتانيين المنحدرين من القبائل الإفريقية الموريتانية في النظام الفرنسي، فيما توجّه الكثير من أصحاب الهوية الثقافية العربية إلى النظام المُعرّب، وهو ما نتج عنه ما يشبه القطيعة اللغوية بين فئات الشعب الموريتاني، وأيضاً حدث أن النخب التي اختارت الدراسة بالنظام العربي، وجدت نفسها شبه محرومة من التوظيف في الحكومة بسبب أن الإدارة تعمل بالفرنسية وهم ناطقون بالعربية وقد درسوا بها، فأصبحوا يشعرون بالغربة في دولتهم، لذلك كان عليهم بذل جهود أخرى لتعلم الفرنسية حتى ينخرطوا في مجال العمل.
في سنة 1999، حدث إصلاح جديد، وقيل وقتها إنه جاء لغرض إعادة توحيد النظام التربوي، وكرّس النهج الجديد تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية.
كانت آخر هذه الخطوات المتعلقة بلغات التعليم سنة 2022، عبر إقرار البرلمان الموريتاني القانون التوجيهي للتعليم. وأقر هذا القانون المتضمن 90 مادةً، اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس للمواد العلمية في المرحلة الابتدائية تمهيداً لتدريس هذه المواد لاحقاً باللهجات المحلية، ويتم تعليمها لجميع الأطفال من غير الناطقين بها بوصفها لغة تواصل وتدريس. وتدريس اللغة الفرنسية ابتداءً من السنة الابتدائية الثانية، مع إمكانية تدريس بعض المواد العلمية بها، وإلزام كل طفل ناطق بالعربية كلغةٍ أم أن يتعلم على الأقل إحدى اللغات الوطنية الثلاث الأخرى (البولارية، والسوننكية، والولفية).
حديث عن واقع اليوم...
اليوم، يلاحظ المراقبون انحساراً للفرنسية بين النخب الموريتانية والنقاش العمومي في موريتانيا بعد أن كانت قبل سنوات هي المسيطرة، إذ إن المواقع الإلكترونية الأكثر تصفحاً هي تلك الناطقة بالعربية وكذلك وسائل الإعلام العربية بكل أشكالها هي الأكثر رواجاً، وحتى النخب والأطر المكونة بالعربية في الأساس أصبحت أكثر عدداً، ويرى البعض أن التعريب أصبح واقعاً جلياً والكثير من الخطابات حول واقع العربية مبالغ فيها، لكن هناك من يشتكي من سطوة النخب الفرنكوفونية المكونة من كل فئات وشرائح وقوميات المجتمع الموريتاني إلى الآن على المشهد الإداري، وتحدث محمد لغظف عن نظرة بعض النخب الفرنكوفونية إلى العربية في موريتانيا، قائلاً: "لا أميل إلى نظرية المؤامرة من قبيل أن العربية تتعرض لمؤامرة في موريتانيا، لكن من الواضح أن أغلب النخب التي تخرّجت من النظام الفرنسي تشعر بالراحة في هذا الوضع، ولا تريد التمكين للعربية، وذلك بسبب ظنها الخطأ أن التعريب سيكون انتقاصاً من مسيرتها، وبالعكس لا أحد ينتقص من مسار أحد، فالتعريب مجرد تصحيح للمسار المنحرف الذي انطلقت به الدولة منذ الاستقلال المزعوم".
ونبّه إلى أن المطالبة بعدم تهميش الأقليات لا يمكن أن تكون على حساب الأغلبية، مضيفاً: "هذا إذا فرضنا فعلاً أن هذه الأقليات راضية بالفرنسية"، مؤكداً على أن "الواقع يقول غير ذلك، الواقع يقول إن نخبةً من تلك الأقليات، وهي أقلية من أقلية، كانت نتيجةً من نتائج هذا التعليم المشوه. وتلك النخبة تحاول إيهام الأقليات بأن الفرنسية لغتها. وهذا ما أشار إليه القاضي الراحل آمادو يور كيدة، حين قال قبل عام على رحيله، "إن العربية كانت هي اللغة المعتمدة لدى أمراء الضفة، كتابةً وقراءةً وعبادةً، ثم جاء الاحتلال فحاول تكريه العربية إلى أهل الضفة وبنى جداراً عازلاً بينهم والعربية، فنرجو أن ينهار هذا الجدار كما انهار جدار برلين"... فالمطالبة بالتعريب إذاً هي إعادة الحق للأقليات التي تريد أن تكون لغة عبادتها هي اللغة الرسمية. والمواصلة في إقرار الفرنسية، هي مواصلة في تهميش هذه الأقليات وغبنها وعزلها عن الواقع وإبعادها عن تحقيق مصالحها ونيل حقوقها".
وتابع المتحدث: "مؤخراً، تابعت انطلاق الحملة الشعبية للتمكين للّغة العربية، وأعتقد أن أغلب أنشطتها كانت موفقةً. وقد وجدَت انطلاقتها أيضاً محيطاً ملائماً بدأ يعي أن لغة الأغلبية مهمشة مؤسسياً، وينبغي تصحيح ذلك المسار".
وخلص إلى القول إن "الواقع يحتاج إلى مثل هذه المبادرات، فالسعي إلى التعريب واجب إن لم تقم به السلطات الرسمية، سيقوم به المجتمع المدني، فلا مفرّ إذاً من أداء الواجب والمسؤولية".