العدالة الاجتماعية: مقاربة في ضوء خطاب رئيس الجمهورية

العدالة الاجتماعية هي مثل أعلى يستند إلى مبادئ تحدد كيفية التوزيع العادل للموارد المادية أو الرمزية (الدخل والخيرات المادية والخدمات) للمجتمع. أي أنها مثل أعلى نحكم في ضوئه على الوضع القائم فيما يتعلق بتوزيع السلطة والثروة والدخل على نحو يؤدي إلى تفضيل المساواة وتعزيزها. وتهدف هذه العدالة إلى تعزيز التضامن داخل المجتمع من خلال توزيع الخيرات المادية والخدمات والمسؤوليات بشكل عادل قدر الإمكان ، مع مراعاة مساهمات واحتياجات كل فرد من أعضائه. لذلك تؤسس الدولة الديمقراطية آليات الحماية الاجتماعية المناسبة التي  تجعل من الممكن التعويض عن عدم المساواة في الفرص بين المواطنين عبر تطوير أشكال جديدة من العدالة الاجتماعية وإنشاء توازن ديناميكي بين إمكانات وحدود تدخل الدولة والحقوق الفردية المرتبطة بمبدأي المساواة والإنصاف. 
 

وتشكل مسألة العدالة الاجتماعية وما يرتبط بها من مسائل المساواة والإنصاف الشغل الشاغل للمواطنين وتحتل مكانًا هامًا في الخطابات والنقاشات السياسية الحزبية والأكاديمية في بلادنا. وقد تغذت هذه الخطابات من التفاوتات الفعلية في الثروة والدخل والتعليم بين أفراد المجتمع هذا فضلا عن المَطَالِبْ المتعلقة بقضايا التنوع العِرْقِي وما يترتب عليه من عواقب تهدد الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي والديمقراطية بشكل عام . ومما لاشك فيه أن بلادنا قد شهدت خلال العقود المنصرمة غيابا ملحوظا لنظم الحماية الاجتماعية الفعالة وارتفاعا غير مسبوق في التفاوت في الثروة والدخل بالإضافة إلى تصاعد دور القبيلة وتفشي النزعات العرقية وربما الشعبوية نتيجة الاستئثار بإدارة الشأن العام اقتصاديا وسياسيا وإداريا ، مما نتج عنه المزيد من الإقصاء والتهميش وغياب للعدالة الاجتماعية سواء أكانت تصحيحية أو توزيعية أو تنظيمية. ولِأَنَ التوترات والحروب في المجتمع لا تنشأ إلا عندما يشعر المواطن أنه غريب في وطنه ، وعندما يكون الشعور بالعدالة غائبًا ، يجب أن تكون العدالة هي الفضيلة الأساسية والهدف المركزي لأي سلطة سياسية أو اجتماعية تنشد الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والسلم الاجتماعي.وقد وَعَتْ القيادة السياسية الحالية التداعيات الخطيرة المترتبة على غياب العدالة الاجتماعية، وكانت الدلالة على هذا الوعي واضحة في  خطاب  رئيس الجمهورية بمناسبة الذكرى 62 لعيد الاستقلال الوطني . فقد أشار هذا الخطاب بكل وضوح إلى حتمية " تصحيح ميزان العدالة التوزيعية " عبر " مكافحة الإقصاء، والتهميش، والفقر، والهشاشة "وإرساء " حكامة رشيدة " في ظل دولة قانون قوية ". وهذا ما يعني أن تحقيق مسألة العدالة الاجتماعية قد أصبح هَمًا وطنيا وأولوية قصوى لا تحتمل التأجيل ، لكونها المدخل إلى" تقوية الوحدة الوطنية، واللحمة الاجتماعية، والتأسيس لتنمية شاملة".

 

 غير أن مشروع تحقيق العدالة الاجتماعية هو بطبيعته مشروع تراكمي شامل ، متعدد الأبعاد ولا يمكن اختزاله في بعض إجراءات التمييز الايجابي لِصَالِحِ هذه الفئة أو تلك من المجتمع. وعلى هذا الأساس فإن  " تصحيح ميزان العدالة التوزيعية " ينبغي أن يروم تحقيق ثلاثة أهداف تمثل أساس ومضمون كل عدالة اجتماعية مٌنْصِفَة :أولا، ضمان الاحتياجات الأساسية للجميع من غذاء ، مسكن ، كسوة ، تعليم وصحة ، ثانيا: ترقية المساواة عبر الحد من التفاوتات الكبيرة في الدخل بين المواطنين، ثالثا: الاعتراف بالمؤهلات والمزايا الفردية أي الاعتراف بالاستحقاقات المترتبة على مبدأ الْجَدَارَةْ وهو ما يطلق عليه الإنصاف. هذه المعايير الثلاثة : الحاجة والمساواة والجدارة ( الإنصاف )  تشكل المجالات الرئيسية للعدالة التوزيعية.

 

إن الإجماع على هذه المعايير الثلاثة كأساس للعدالة الاجتماعية – التوزيعية هو الضمان الأكيد لتجنب الانقسامات القومية أو الديموغرافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية.كما أن أي نظام اجتماعي أو سياسي لم يتحرر من مظاهر الغبن والتهميش ومنطق المٌحَاصَصَة والفساد وثقافة الاستبداد الناعم ( التحكم في الآخرين واعتبارهم أقل شَأنًا ) لا يمكن أن يشكل أرضية صلبة لتنفيذ عدالة اجتماعية كلية وملموسة. لأنه سيكون في هذه الحالة وببساطة نظام بيروقراطي يركز على السيطرة ويعزز التسلسل الهرمي ويعيق التغيير.

وهذا ما يعني أن العدالة الاجتماعية تعني كذلك عدالة القرار السياسي فيما يتعلق بضمان فرص عادلة للمشاركة في الحياة السياسية والسماح للجميع بأن يكون لهم رأي ودور معلوم في تدبير الشأن العام.لقد حدد خطاب الذكرى 62 لعيد الاستقلال الوطني الإجراءات والتدابير المناسبة " لتصحيح ميزان العدالة التوزيعية " إلا أن المحافظة على مكاسب هذا التصحيح ستحتاج  إلى المتابعة والتقييم المستمر في إطار مفهوم شامل للعدالة الاجتماعية يسمح بتحقيق الأهداف الأساسية الثلاثة التالية : ضمان الحاجات الأساسية للمواطنين ، ترقية المساواة ومٌرَاعَاة الاستحقاقات المترتبة على مبدأ الْجَدَارَةْ ( الإنصاف ) . 

 

الدكتور / سيدي محمد يب احمد معلوم 

خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات

اثنين, 02/01/2023 - 23:48