لا يبدو أنه تغير الكثير من مفاهيمنا المرتبطة بوسائل الإنتاج وطُرقه، فالبحث في دهاليز المجهول عبر مغامرة مُضنيّة لا يزال أهم وسيلة لتحقيق ثروات طائلة، توجد غالبًا في نظر الكثير منا، ضمن حيزالخرافة الشاسع، حيث تشكل الأساطير أهم دافع للمغامرة، ذلك الدافع الذي تُغذيه ذاكرة من الانتجاع مازالت ترسباتها واضحة للعيان في جميع تفاصيل حياتنا اليومية.
كان كل شيء من حولي يشجعني على الكسل وعلى الاستمرار في إدمان الانترنت، وعلى الحديث عن(اللّيكا وكُبا أمريكا) وعن مواسم الانتقال في الأندية الأوروبية العريقة، لدرجة خُيّل إلي أنني الآمر بالصرف في جميع تلك الصفقات، لم تقنعني واقعية اليبانيين، ولا رغبة جيراني في بناء دول قوية،بضرورة تغيير واقعي المزري، فمنطقي الغريب المسكون بهاجس البحث عن كل شيء معاد للاستقرار شجعني على امتهان حركة دؤوبة لملء فراغ يُعادي بطبعه كل ماله علاقة بالواقعية.
لقد وجدت ضالتي في أحاديث الناس عن أطنان الذهب المتناثرة في إينشيري وتيرس الزمور، لأنها كانت تعني لي فرصة للثراء السريع، حتى ولو تطلب الأمر التضحية بكل ما أملك، في رحلة محفوفة بمخاطرجمة، والحق أنني كنت مجرد واجهة تعكس الصورة الحقيقية لواقع مجتمع تٌحفزه الخرافة على تكرار الأخطاء ذاتها في سبيل موت محقق.
كنت في غاية الحماسة مع انطلاق رحلتي نحو المجهول، وصلت صحراء تازيازت ومعي القليل من الفاصوليا والفول السوداني واللحم المجفف، نظرة يُمنةً ويُسرةً، وقلت بكل ثقة سأشتري كل السندات التي تبيعها الدول في ظرف وجيز وسأصبح مساهما في شركات عملاقة (أمازون وكوكل وغيرهما...)، توقفت للحظة عن هذا التفكير المفرط في التفاؤل، فعم الأفق صمت غريب وكأنه يراقبني بحذر، أمعنت النظر ثانية فإذا بصخور عبوسة تحكي أشكالها عن واقع الحال، وعند أول ضربة لتلك الحجارة المتناثرة، ظننت حينها أن الكنز تحت قدمي، لأكتشف أن هذه مجرد خطوة أولى في رحلة ستطول، ومع ذلك كان بداخلي حماس قوي يدفعني للاستمرار، والغريب أنني لم أفكر في التراجع للحظة بعد أن نجوت بأعجوبة من الانهيارات المتكررة لآبار سقطت على رؤوس شباب حالمين بالطرق ذاتها.
أحاديث الموت القادم من وراء الحدود أصبحت أهم دافع لي للعثور على الكنز المختبئ، في نظري، خلف كل هضبة، وربما تحت الصخور السّحيقة، قررت التشبث بالحُلم من خلال ثنائية الحفر والحركة، وبذلك تجاوزت كل الخطوط الحمر، ورغم كون رحلتي أصبحت أشبه بالسير نحو أجل محتوم تتحكم فيه طائرات (الدرون) التي تتربص بي خلف الحاجز الرملي، إلا أن خبر القتل بتلك الطائرات المسيرة شكل عاملا مهما دفع بالكثير من بني وطني إلى أن يسلكوا ما بات يعرف بطريق الثراء الخرافي، ولعل السبب في ذلك راجع لتوفر كل عناصر الأمل التي يرى البدوي أنها تتشكل من رباعية تجمع بين الأسطورة،والخرافة، والخطورة، والسير نحو المجهول.
أصبح مسار نواكشوط الشكات يذكرني بأحاديث الجغرافيين العرب عن ملوك الذهب وعن المنسا موسي امبراطور مالي، ففي كل متر يُخيّل إلي أن أصحاب تلك القوافل التي حدثنا عنها البكري والإدريسي... اخفوا هنا حمولتهم من الذهب الخالص خوفا من قطاع الطرق وضلوا طريقهم إليها.
المفارقة أن تشجيع السلطات للشباب على الزراعة في الجنوب لم يصمد أمام مغريات أساطير الذهب، صار الأمر من وجهة نظري أقرب للخيال، تساءلت لماذا لم تستهويهم حفلات الشاي في وزارة الزراعة التي تصرف عليها المليارات دون رقيب؟..,فقد يجنون من مجرد التفكير في زراعة الشاي في ساحة الحرية مليارات الأوقية.
بعد رحلة طويلة دامت عدة أشهر عُدت أدراجي مُحبطاً، أيقنت أن الكل سيسخر مني ومن أساليبيالبدائية في البحث عن الذهب، لذا كنت أحاول تجنب الأصدقاء والفضوليين لكي لا تكون رحلتي موضوعا للتهكم والنكات الساخرة . بعد حديث مع نفسي بصوت مسموع، قررت الدخول في حوارات يديرها أشخاص يسوقون الوهم لشباب ورجال من مختلف الأعمار، حدثوهم عن بطولاتي الوهمية، وعن أطنان الذهب التي حصلت عليها بعد حفري لآبار في كل مناطق الشمال وداخل ثكنات عسكرية في دول مجاورة.
لفت انتباهي ماقاله أحدهم عن أفضل الطرق للثراء الفاحش السريع، حين أعطى مثالا بالرحالة الإيطالي كريستفور كولو مبوس( 1451- 1506 ) الذي اكتشف العالم الجديد ، كان الجَمْع يزداد مٍن حوله بصورة غريبة، والمفاجأة أنه أقنع كل الحضور، سواء كانوا واقعيين أو افتراضيين، بصوته الجهور قائلا:" انظروا وسائل التواصل الاجتماعي ستجدون موريتانيين استطاعوا أن يجمعوا بسهولة بين الشهرة والمال، بعد أن كانوا أشخاصا بسطاء، لكن كل شيء تغير بعد وصولهم لبلاد العم سام".
في اللحظة ذاتها وبصوت مرتفع وصل صداه أعماق موريتانيا، طُرح السؤال نسفه، أين تقع هذه الأرض ؟ وما هي أفضل الطرق لضمان الوصول إليها ؟ . بقهقهة ساخرة أجاب المتحدث، الأمر ليس سهلا ، لكنه يستحق . عم الصمت المكان فجأة، نظرت لمن حولي فإذا بهم يُحدّقون في هواتفهم الذكية للبحث في خرائط كوكل عن أمريكا الوسطى والجنوبية ، وعن الطريق الذي سلكه فرناندو ماجلان وكولومبوس ومشاهير السو شيال ميديا...
يتبع.
د. أمم ولد عبد الله