إن التقاء مناسبتين عزيزتين إلى قلوبنا جميعاً؛ ذكرى الاستقلال الوطني الموريتاني وعيد الاتحاد لدولة الإمارات العربية المتحدة، هو التقاء في الزمن، بفارق أربعة أيام فحسب، توازيه وتصاحبه التقاءات ثقافية ووجدانية تصنعها مشتركات كثيرة للغاية، وهي مشتركات صاغت وتَصوغ خصوصيةَ العلاقة القائمة بين بلدينا ربما أكثر من أي علاقة ثنائية أخرى بين دولتين. لقد ساهمت خمسٌ من مفردات الأصالة العربية، هي البداوة والصحراء والخيمة والناقة والنخلة، في خلق حالة من التشابه الاستثنائي بين الشخصيتين الإماراتية والموريتانية، رغم التباعد المكاني الذي عوَّضه تقاربٌ وجداني يجد أحد أسبابه المهمة في تجذر الإنسان الإماراتي ثقافياً واجتماعياً وحضارياً في تربة الجزيرة العربية، كما يجد سببه الآخر في كون الإنسان الموريتاني على الخصوص لم يكد يبارح في زمنه الثقافي حدودَ شبه الجزيرة العربية وبيئتها التي ظلت تسكنه شعراً وأدباً وتصنع منه ما هو عليه وجدانياً، في تفضيلاته الجمالية ومقاييسه الأخلاقية ونظرته العامة إلى العالم والكون.
وعلاوة على ما نلحظه من تشابه في التكوين الثقافي بكثير من تجلياته الدينية والأدبية والفنية، وفي البنية الوجدانية بتعبيراتها وتمظهراتها المختلفة، وضمنها الولع بالصحراء كرمز للانطلاق اللا محدود.. فهناك تشابه ملحوظ آخر في تجربة إنشاء الدولة الوطنية وقيام كيانها الحديث في كلا البلدين. فكلاهما أقام دعائمَ دولته الحديثة ورسَّخها في ظل غياب ميراث محلي من تقاليد الدولة المركزية العصرية يصح أساساً متيناً للبناء عليه. وكلاهما أقام دولتَه كنوع من «تحدي المستحيل»، إذ وُوجِهت لدى قيامها بتحديات إقليمية وعالمية تتطلب الكثير من الصبر والحكمة لتخطيها. كما أن كليهما انطلق وسط ظروف غير مواتية في بناء دولته الحديثة؛ إذ خرج الفرنسيون من موريتانيا دون أن يتركوا وراءهم أي بنى تحتية أو هياكل ارتكازية، وكذلك تقريباً فعل البريطانيون في إمارات الساحل المتصالح.
لقد تشابه السياق التاريخي لتجربة إنشاء الدولة في الحالتين معاً، الإماراتية والموريتانية، واتصف بمحورية دور الرئيس المؤسس، الذي استطاع بثباته وصبره وأنَاته وحكمته وإخلاصه وبُعد نظره.. استيعاب الجميع وتأليف قلوبهم، تعبئةً للطاقات الوطنية في مواجهة التحديات القائمة في وجه الدولة الناشئة. لقد كان على الشيخ زايد منذ عام 1969، أي منذ أن تراءت بوادر خروج بريطانيا من المنطقة، بذل جهود هائلة سعياً لتوحيد إمارات الساحل المتصالح في كيان دولة اتحادية واحدة. وكذلك الأمر أيضاً بالنسبة للمختار ولد داداه في الحالة الموريتانية منذ عام 1956 حين صدر «قانون ديفير الإطاري» الذي كان نقطة تحول في العلاقات بين فرنسا ومستعمراتِها في أفريقيا.. إذ تعين عليه هو أيضاً أن يوحِّد «وطناً موريتانياً» كان موزعاً بين قبائل وإمارات وانتماءات أولية متناثرة في أرض شاسعة، وأن يؤسس دولةً جديدةً لم يخلّف الاستعمار نواةً كافية لقيامها خلافاً لما كان عليه الحال في جميع بلدان المنطقة، إذ كانت موريتانيا البلد الوحيد الذي التأمت حكومته الأولى تحت خيمة، كما كانت البلد الوحيد المقبل على نيل استقلاله دون أن تكون له عاصمة وطنية. وفي ظل ظروف معقدة وغير مواتية مطلقاً، كان على المختار ورفاقه من جيل التأسيس أن يوائموا بين خطواتهم التدريجية نحو نيل الاستقلال الوطني وبين ضرورة الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع دولة المستعمر التي يحتاجون إليها في كل شيء، من تمويل ميزانية الدولة الجديدة إلى دعمها والدفاع عنها في مواجهة المطالب الإقليمية الرامية إلى عرقلة استقلال البلاد ومحاولة تقسيمها بين دول الجوار.
وفي ظل أوجه الشبه بين تجربتي التأسيس وسياقها التاريخي في الحالتين، علاوة على الوشائج الحضارية والثقافية والوجدانية الموروثة، كان من المفهوم إلى حد كبير وجود إمكانية لقيام علاقات رسمية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والجمهورية الإسلامية الموريتانية. لكن التشابه القوي بين شخصيتي المؤسسين ساهم في نقل قيام العلاقات من طور الإمكان إلى طور الحتمية، أي من القوة إلى الفعل وفقاً لتعبير المناطقة. فلم يكن أي من الزعيمين الأستاذ المختار ولد داداه والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمة الله عليهما، سياسياً شعبوياً ولا قائداً ديماغوجياً ولا زعيماً مدعي بطولات وبائع شعارات ثورية ووعود وهمية.. بل كانا زعيمين سياسيين واقعيين، اتصف كل منهما بالحصافة والحكمة والحنكة الدبلوماسية، وبتغليب الجانب العملي والحلول الواقعية وبالميل إلى التعاون الإيجابي والمواقف البناءة والخيارات السلميّة والأساليب التوافقية، علاوة على إيمانهما بالمنهج الإصلاحي التدرجي في سبيل الوصول إلى تحقيق المصالح الوطنية. كما كانا صاحبي رؤية عميقة وقدرة فائقة على قراءة الواقع واستشراف تطوراته وتوقع مآلاته، لذا فهما بحق مؤسسان كبيران وبانيان عظيمان، أنجز كل منهما صرح دولة في مكان اعتبره الكثيرون في حينه غير قابل لاستزراع نظام الدولة العصرية المركزية، بالنظر إلى تربته الثقافية التقليدية والمجتمعية ذات التجزأ القبلي. كما يشتركان معاً في حيازتهما خصال «الزعيم التاريخي» وفضائل «رجل الدولة» وقيم «الوالد المؤسس».. لما أظهره كل منهما من حكمة وحنكة وصبر وكياسة وبعد نظر وقدرة على تجاوز الذات وعلى استيعاب وتخطي كل المعوقات والعراقيل والمثبِّطات.. وكم كانت كثيرة وعويصة في كلتا الحالتين!
إن تشابه الخلفية الثقافية بملامحها العربية الأصيلة، والتجانس بين كيمياء شخصيتي الزعيمين، والتلاقي الملحوظ في جوانب التجربة السياسية الحديثة نفسها، كل ذلك مهّد لقيام علاقة صداقة قوية بينهما، إلى درجة أن المختار ولد داداه ردَّ بالقول "إنه الشيخ زايد"، جواباً على سؤال طرحته عليه إحدى الصحف الأجنبية حول أقرب الشخصيات إليه. وربما تبدَّت مقدمات ذلك التقارب مع أول لقاء مباشر بين الرجلين خلال القمة العربية في الجزائر عام 1973، والتي كانت أيضاً أول قمة عربية يحضرها البلدان، إذ فيها كان انضمام موريتانيا إلى عضوية الجامعة العربية، بينما نالت دولةُ الإمارات عضويتَها في الجامعة مباشرةً عقب إعلان قيام اتحادها في عام 1971، لكن أول قمة عربية عقدت بعد ذلك التاريخ كانت قمة الجزائر نفسها أيضاً، حيث كان اللقاء الأول بين الزعيمين.
وقد حدث في العام 1973 أيضاً أن أخفقت المفاوضات بين نواكشوط ومجموعة السوق الأوروبية المشتركة حول تمويل مشروع طريق «الأمل» الرابط بين شرق موريتانيا وغربها، بعد رفض الجانب الموريتاني الرضوخَ لما اعتبره شروط تمويل أوروبي «غير منصفة». وعندها قرر الرئيس المختار ولد داداه التوجه نحو الدول الخليجية الشقيقة طلباً لتمويل مشروع طريق «الأمل» الذي كان يعتبره أهمَّ مشروع وطني بعد مشروع الاستقلال نفسه. وقد ازدادت قناعته بصوابية ذلك القرار عقب لقائه في قمة الجزائر بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والذي دعاه لزيارة دولة الإمارات، فتوجّه إليها بعد أشهر قليلة من اللقاء الأول، ملبياً الدعوةَ على رأس وفد رئاسي كبير. وكانت دولة الإمارات بقيادة الشيخ زايد عند حسن ظن الجانب الموريتاني، إذ تكفّلت على الفور بتقديم الدعم لمشروع الطريق الذي ساهم في تحقيق الاندماج الوطني وفي تسريع وتيرة التحديث وتقوية الارتباط بين ستٍ من ولايات الوطن، وبينها وبين العاصمة نواكشوط، فضلا عن كونه وفَّر عائداً وسدَّ فاقداً اقتصاديين غير محدودين.
ثم ردَّ الشيخ زايد بزيارة تاريخية لموريتانيا في العام ذاته (1974)، حيث احتفى به المختار على الطريقة البدوية الموريتانية التقليدية، فازداد الإعجاب المتبادل بين الضيف الكبير ومضيفه الكبير أيضاً. وفي العام ذاته أيضاً تمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وافتتحت موريتانيا أول سفارة لها في أبوظبي.
وتتويجاً لهذه العلاقات واللقاءات والزيارات، بدأ العون التنموي الإماراتي لموريتانيا ولم يتوقف، وكان له دور كبير في إخراج عدد من أهم المشاريع الموريتانية إلى حيز الوجود وفي استمرار مشاريع أخرى مثمرة وملهمة، بما في ذلك مشروع طريق الأمل العملاق، ومشروع التحول النقدي من الفرنك الأفريقي إلى العملة الوطنية (الأوقية)، علاوة على مشروع استثمار نهر السنغال. وحول هذه الجزئية الأخيرة يقول المختار ولد داداه في مذكراته: «قررت مالي والسنغال والجمهورية الإسلامية الموريتانية في سنة 1972 أن تحل منظمة استثمار نهر السنغال محل منظمة البلدان المتاخمة لنهر السنغال، بعد انسحاب غينيا من هذه المنظمة. وبما أن التمويلات المتوقعة أصلا، والتي تم الحصول على جزء منها، لم تعد كافية بسبب مشكلات التضخم التي شهدها العالم، فإن انطلاق عمليات المناقصة لإنجاز المنشأتين الأساسيتين للإصلاح، وهما سدَّا دياما ومانانتالي، قد تأخر. ولذلك لم تستطع مشاريع المنظمة أن تنطلق. وقد اقترحتُ على زميلي سينغور وتراورى أن نتجه جميعاً إلى السعودية والكويت والإمارات وقطر، طلباً لمساعدة خاصة جديدة تكمل التمويل الضروري. وقد قبل زميلاي هذا الاقتراح.. وقمنا بجولتنا في سنة 1977 واستُقبلنا بحفاوة في العواصم الأربع حيث هيأت الديبلوماسيةُ الموريتانية الأرضيةَ وحصلنا على تعهدات مهمة جديدة سهلت كثيراً انطلاق عمليات المناقصات بالنسبة للمنظمة. وكان ذلك تجسيداً جديداً للتضامن والتعاون العربي الإفريقي».
وتتويجاً لهذه العلاقات واللقاءات والزيارات، أوفدت الجمهورية الإسلامية الموريتانية، في عام 1977، مجموعةً من القضاة والمفتين إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بطلب منها، كما طلبت منها أيضاً «وكلاء شرطة وبعض اليد العاملة المتخصصة وغير المتخصصة»، وفقاً للمختار ولد داداه أيضاً.
لقد انطلقت علاقات التعاون الأخوي الموريتانية الإماراتية في السبعينيات، وطبعها تواصلٌ دائم ومثمر بين البلدين، تَوَّجَه إنشاء لجنة التعاون الموريتاني الإماراتي المشتركة في عام 2012، والتي عقدت اجتماعَها الأول في أبوظبي عام 2018، ليسفر عن توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات متنوعة.
ولا يخفى على المتابع المهتم حجمُ انخراط الإمارات في الجهود التي تبذلها الدولة الموريتانية للارتقاء بمستوى حياة الإنسان الموريتاني، سواء من خلال اتفاقيات العون التنموي الموقَّعة بين حكومتي البلدين، أم من خلال المشاريع البنيوية والخدمية التي تنجزها الإمارات على الأرض الموريتانية، أم من خلال تدخلاتها الخيرية والإنسانية في عشرات المدن وقرى الريف الموريتانية. وهذا بالطبع علاوةً على وجود جالية موريتانية كبيرة نسبياً (بالمقاييس الديموغرافية الموريتانية) تعيش مكرَّمةً معزَّزةً في دولة الإمارات، وتمثل تحويلاتها المالية رافداً مهماً للحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، كما تمثل هي بذاتها جسرَ علاقات ثقافية وعلمية وتجارية له أهميته الكبيرة بين البلدين.
ولا شك في أن دينامية الشراكة والتعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين في مجالات الأمن الغذائي والثروة الحيوانية والصيد البحري ومشاريع الطاقة (بنوعيها الأحفورية والمتجددة)، إلى جانب السياحة والخدمات والبنى التحتية.. دينامية واعدة ومهمة للغاية. وبينما تختزن موريتانيا فرصاً مهمة وثرية للاستثمار والتطوير والتعمير، فإن الإمارات تعد أكبر مستثمر خارجي على مستوى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا. وهي قوة اقتصادية وتجارية وعلمية ناهضة بهمة وطموح عاليين للغاية، وقد استطاعت تجاوزَ الدول المتقدمة في العديد من المؤشرات التنموية العالمية. وبتجربتها الناجحة تقدم الإمارات نموذجاً ملهماً، لاسيما في مجالات البنية التحتية والخدمات العمومية ونظام الحوْكمة والحكومة الإلكترونية.. إلى جانب سياساتها الناجحة أيضاً في مجالات السياحة والتعليم والبحث العلمي. وسيكون الاقتباس والاستلهام من هذه التجارب والنجاحات رافداً آخر لتعزيز علاقات الأخوّة الموريتانية الإماراتية وترسيخها، أي المضي بها قُدُماً على ذات المسار الذي دشنه وأطلقه الزعيمان التاريخيان المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والمؤسس الأستاذ المختار ولد داداه، ولم يزل يتعزز ويترسخ منذ ذلك الوقت، أملا في الوصول به إلى الاقتراب من مستوى الطموحات المستقبلية المشتركة بين البلدين الشقيقين.
محمد المنى