في الأسبوعين الماضيين سنحت لي فرصة تجديد الوصل بالشعر العربي بزيارة نصوصٍ منه طال بها العهد ... مُستهلاً الجولة بالمهلهل والملك الضليل مروراً بحسان بن ثابت وطليحة بن خويلد الأسدي رضي الله عنهما ... وصولاً إلى الفرزدق وجرير وعدي بن الرقاع وبشار بن برد وأبي تمام وعلي بن الجهم وأبي نواس والمعري والشريف الرضي ... توقفاً بمن ملأ الدنيا وشغل الناس شاعر كل الأزمان: أبي الطيب المتنبي ... لأواصل إلى العصور الحديثة حيث وقفت مليا مع أحمد شوقي ومعروف الرصافي وخاصة مع شاعر الجمال الراحل نزار قباني ...
وقد ألقيت عصى التسيار بشعراء المنكب البرزخي وكلي تعجب وحيرةٌ مُتجددين من مستوى النضج الذي وصلوا إليه جزالةً وسبكاً ورصانةً وتدفقاً وموسيقَى ... شعراء أبدعوا في بيئة بدوية يطبع حياتها السير والترحال ... في ظاهرة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً ... إنه مظهر من تجليات ما دأب المثقفون أن يشيروا إليه ب"البداوة العالمة" ... وبينما أن أطوف في عوالم الشعر الموريتاني يصحبني ذلك التعجب وتساورني تلك الحيرة، إذا وكأني بصوت حازم يقول لي : لو لم يقل شعراء هذا القطر إلا ما قاله الشيخ محمدُّو بن حنبل الحسني في رثاء الشيخ سيديَّا لكفاهم. وأنشدني – مُنصرفاً- من تلك القصيدة العصماء :
ألا رُبَّ من يبكي الكمالَ بعبرةٍ
حرامٌ على غير الكمال انصبابُها
وخَودٌ تلقَّتْ بالبنان دموعَها
تشابه لوناً دمعُها وخِضابُها
ويسبقها طوراً من الدمع سابقٌ
قد ابتلَّ منه عقدُها ونقابُها
تخاطبني وهناً وفي الصدر غُصّةٌ
فلأياً بلأي ما يبينُ خِطابُها
تقولُ: أبعد الشيخ تنعم عيشةٌ
ويهْنأ أرضاً أن يثُجّ سحابُها ؟
أليس الذي أحيى به اللّه خلقه
ولولاه لم تحمل رؤوساً رقابُها
فقلتُ لها: - والنفس تغلى ومقلتي
شبيهٌ بمنثور الجُمان انسكابُها-
فهذا بحمد اللّه منه خليفةٌ
به انزاح عنها بثّها واغترابُها
وماستْ به أغصانُها ورياضُها
فرجَّع لحْناً طيرُها وذبابُها
لِـيَهْـنَأْكِ أن قد قام بالأمر بعده
فتًى هو بيت المكرُماتِ وبابُها
تضلَّع من علم الشريعة وانتهى
إليه منَ أسْرار الطريق لُبابُها
أغرُّ وسيمٌ يغبط الشَّـهْدَ خُلقُه
على أنه طَـلْـقُ اليمين رَحابُها
له همَّةٌ يهوى بها النِّـسْرُ واقعاً
ويهبط من جوِّ السماء رَبابُها
فتًى ما نجَتْ نُجْبُ المَطِيِّ بمثله
ولا حملتهُ بُخْتُـهـا وعِرابُها
ولا ضاءَ وجهُ الأرضِ إلا بوجههِ
ولا طاب إلا من شَذاهُ تُرابُها
علا فوق أعلام البرية رُتبةً
تقاصرَ عنها شيبُها وشَبابُها
ولما عدتُ إلى خواطري، إذا بذلك الصوت الحازم يعاود الكرة ويقول لي : بل ولو لم يقولوا إلا أبياتاً مما مدح به الشيخَ سيديَّا الشاعرُ الحسني المُجيد محمذن بن السالم لكان سبباً كافياً للفخر والاعتزاز :
يداهُ غمامتان على البرايا
على التدآب دائمتا انهمالِ
فذي عمت بصيبها وهذي
تخص بها ذوي الهمم العوالِي
حَوت ما دون مرتبة التنَبّي
يداك من المكارم والمعالِي
وأنت إذًا من الثقلين طُرّاً
بِمنزلة اليمين من الشمالِ
ثم انصرف الصوت الحازم انصراف واثق برأيه غير عابئ بالخوض في الأسباب الموضوعية لظاهرة احتضنتها -ولمدة قرون- بلاد ما بين الصحراء الكبرى وضفاف المتوسط، ظاهرة ما زال الباحثون يقفون في حيرتهم القديمة أمامها دون تفسير.
عز الدين بن كَراي بن أحمد يوره