مُؤسف ما يحصل في قصة الفتاة مامة.. والمؤلم في المآسي المَستورة، أنَّ تصاعد المُقارعة فيها بعد انكشافها يُدمِّر أبطالها.
إذا غُصنا في دخيلة الحقيقة، فإنَّ مأساة الفتاة في أهلها، فلا هُم أحسنوا تحصينها وتربيها على قيَّمهم المُحافظة التي يذودون عنها اليوم، ولا هُم تركوا لها حُريَّة الحياة على قيَّمها المتحررة، والتي على أساسها تَصوَّرت حَقَّها في الزَّواج من خارج منطقة المقبول، التي يرتاحُ لها مُجتمعها.
كلّنا مع الوعي السِّلس بعائق الكفاءة في النَّسب، وعيٌ متفهِّم، ومُعايش لواقع الحال، فالهدف في النهاية، هو السّعي نحو مُستوًى من الاعتدال،.. فَمن الوَهْم أنْ نتخيَّل تقويضًا في المنظور القريب للبُنية القاعدية لمُجتمع البظان .. لأنها بنية متحجرة، مترسِّبة في الذِّهنية العامة ومحروسة الحواف بمتاريس السُّمعة والشَّرف والعَيب،.. والدليل سرعة انهيار دفاعات العشيق، وتخلِّيه عن عشيقته حين تحوَّل الأمر بينهما من لُعبة شباب في الخفاء إلى لَعِب بِسمعة الشِيَّب في العلن.. لم يُغامر العريس بالقتال في مَعركة محسومة الخَسارة.
تواترت حالات من هذا القبيل وأعرفُها بالأسماء، طفَا فيها المكبوت المُصادم للمجتمع في لحظة مَّا، بعضها وصل المَحاكم والبعض عولج بالحكمة.
قُدسية الشرط الديني في الزواج، تكفل له أنْ لا يُخضَعُ لمُواءمة الغَرام والحب والكُره،.. فالدِّين حصنٌ، وإلزامٌ شرعيٌّ، والتزامٌ عقائدي بالإلزام، والولاية ليست منتوجا محدود الصلاحية تُسقطها نبضات القلب أو الانفتاح..
لكن في حالة الشابة مامة تمَّ الخلط عمدًا بين "غيَّاب" إذن الولي وكفاءة النسب، وقد كان الولي غائبا عن كل تفاصيل سير ابنته بثبات نحو "القاع"،.. لكن فسْخ زواجها عنوة يتطلب منه استخدام سلاح الولاية (الشرعية) للسيطرة على تبعات الكفاءة (الاجتماعية).. وهكذا انتصر المجتمع على الدِّين، ولم ينتصر له أو لسد الذَّريعة، وليست الأولى هنا..فمُحاسبة المُجتمع لأفراده عَذاب دنيويٌّ مُعجَّل.
نحن نُنَظِّر لشبابٍ "افتراضي" من عالمٍ هوائيٍّ غير عالمنا، "مِجَّابِرْ حَتَّ" في مَعزله، ومُتحرّر من إشكال اللون والنَّسب وعبء الموروث، تفور هرموناته الجنسية، وفي مرحلة عنفوان الشهوة الجسدية، يكفر بالمجتمع ولا يفقه فرائض الوضوء، ويرى أنَّه حتى ولو تجاوز عقبة المال فلن تتجاوز به أفكاره عقبة الولي والكفاءة في النسب، ولذا سلك مسلك العلاقة الحرة، المتمردة على القيد الديني والاجتماعي..
نحن أيضا نُنافق في هذا الحيِّز،.. تابعتُ مرة مقابلة مع فقيه شاب، يستشيط حماسًا ضد مُعوِّق النسب، ويُروِّج للزواج الهادم لحواجز التَّضاد الشرائحي، وحين سأله المُحاور: «هل تقبل ذلك في بناتك؟»، تلعثم وتَضاحَك وتذاكى قائلا: «لا تُشخصن المسألة من فضلك، أنا أتحدث على وجه العموم».. خافَ "التَّنويري" من تبعاتِ إجابته على بناته!، فعند تلك العتبة، يقف رُشد الدين والوعظ باسمه وباسم التقدمية، لتستيقظ رهبة جاهلية الطبقة والعرق والسُّمعة والواقع.. نعم، يَصعب القفز فوق الواقع بالتنظير.
تحرير المنظومة المتحجرة يكون بالمجابهة بالتي هي أحسن (تراكم الوعي والتعليم).
الفتاة مامة وأسرتها، تقعان في الحالِ تحت ضغط التَّصنيف السلبي والذَّم والتجريح، والخوض في عرضهما، وهذا جزء من المشكل ولا يُعين على أيّ حل.. كان الله في عونها، وكذلك في عون أهلها.
والأكيد أنَّ زمننا له متطلباته من اللّيونة الفقهية.
.........ا
وددتُ التَّعريج على موضوع يُعاودُ إثارة اللَّغط، .. وتتداخلُ فيه عوامل أكثر اتّساعًا من قشور الفهم، اسمحولي أن أنطق هنا بلسان الرَّأي الغائب.. والموضوع هو، الدستور الاجتماعي لمجتمع "لخيام لكبرات"..
مبدئيا، من أسوأ ما كسبنا من قارتنا الإفريقية التعيسة، نظام "الكاسْتْ" أو الطبقية الوظيفية المغلقة، وجُلّ مصائبنا اليوم من تبعاته.
"الخيمه لكبيره" - في نظر سَدَنَتِها- بُنيَّت شرعيتها الرمزية من لعب أصحابها لأدوارٍ تاريخية وظيفية ميَّزتهم، أو هيَّ مكتسبة من ظروفٍ أمْلاها تَموضُعٌ مُعيّن في التراتبية الاجتماعية، في حقبة ما.
قد أجدُ اليوم، أنَّ بعض التَّصورات الحادَّة التي طَافت حول قضية الفتاة مامة (بُعدها الطبقي)، يُأججِّها تضخُّم الرَّغبة في نسف بعض تفاصيل الماضي جُملةً، وخصوصا تراتبياته الاجتماعية، فمن بيننا من يتمسَّك بأن كل إيمان بالتقدمية الاجتماعية، يستدعي الجنوح لمسح الموروث أو للتزهيد فيه على الأقل، بغية الإقلاع من نقطة "صِفر" تَسمح بأن يتساوى الجميع بخلفية تاريخية فارغة!..
ولذا، فإنَّ كل احتكاك اجتماعي بين طبقتين، يستنطقُ فورًا مُسلَّمة أنَّ الناس في هذه الأرض، إمَّا تابعٌ (أدنى) أو متبوعٌ (أعلى) ، ثم يُحرِّك آليًّا عاصفة هجوم بنعوتها السَّلبية على ما يُعرف "بمجتمع الخيمه لكبيره" (مُجتمع المَصائب)،.. لتجعله في مواجهة مُفتعلة مع دكتاتورية رأي "عُموم الناس" (المجتمع الضحية)،.. هل هوَّ سوء تقدير؟، إذا اعتبرنا أن تغذية الأذهان بالقراءة المُريبة لسلوك التّراث لا تُجدي في تغيير أحداث التاريخ بفعل رجعي!.. إذا كان التَّاريخ لا يُكيَّف بالمزاج.
لا أجدُ تضادًا بين حق " لخيام لكبارات" في التمسك بقيَّمهم الاجتماعية والذَّود عنها، مادام سعيهم في حُدود الوصاية على شؤونهم الداخلية، وتنظيم المُرور في انتاجهم البيولوجي بما لا يتنافى وحق الفرد تحت مظلة الدَّولة..
لم يستطع أدوارد الثامن، ولا هانري ابن تشارلز الثالث(على قيد الحياة)، فرض إرادتهما في زواج شعبي عن حُبٍّ، على خيمة أهلهم من "انْصارتْ" الملكية البريطانية،.. وكذلك حُرِمت حفيدة امبراطور اليابان، من لقبها ومخصَّصاتها المالية، حين مال قلبها لشاب من عامة الشعب، لأنَّ تقاليد البيوت الكبيرة في عقيدتهم الاجتماعية فوق اعتبار القلب، ويليق بغيرها ما لا يليق بها، أليسَ هذا من التعصب والرجعية؟.. هو تناغم مع طبيعة منطقهم كأسر لها خصوصيتها.
أنا كمواطنة سأكون ضد "لخيام لكبارات" بقوة وكذلك "لخيام اسغارات" وجميع الشرائح، إذا تعارضت مع التالي فقط: إنْ تصادمت مصالحهم مع قيَّم الجمهورية بشكل مباشر(هل ما زال بيننا مؤمن بها!)، إن احتكروا الحق في امتيازات خاصة أو مُعاملة فوقية، إنْ وقفوا في وجه وُجود مجتمع أكثر انصافا وكفاءة أو نقَّصوا بأفراده، إن تمتَّعوا دون غيرهم بنفوذ على العَدل، أوْ امتنعوا عن دفع الضّرائب أو تأدية واجب عام، أوْ رفضوا الخضوع للقانون السَّائر على الجميع.. أما ألقابها ورتبها وأنماط حياتها الخاصة فَلَهَا، ولها حق صيانتها بما تراه.
وليس من العدل التحريض ضد قيِّم لقب اجتماعي محدد، لمُجرد كونه يتعارض مع مزاج بعض الأغيار عنهُ، أو ضجرًا منه أو نكاية فيه ،.. فبقدر ما لا تعني منظومة الأسر العريقة شيئا للزاهدين فيها أو الجاهلين بها، فإنها تعني كُلَّ شيء لدى المتمسكين بها... وهذا حقُّهم.. كما أن التَّنقيص الانتقائي لا يليق بشَرف المواجهة مع التاريخ،.. فما منْ نسمة على هذه الغبراء المتناقضة، إلاَّ وتزهو برموزٍ تَخصُّها، صُنعت في الواقع التاريخي أو في المُتخيل عنه.
ثم ما ذا عن إيماننا بحق الاختلاف؟ أم أنَّه حق مُصان فقط لمن يُحرِّض على ثقافة الاجتثاث والمسخ والعَدم.
يقيني أنَّ "الخيمه لكبيره" ستكون ذات قيمة مضاعفة لأفرادها، إنْ هُم سَعوا لتمثُّل التزاماتها التقليدية، وإنْ هيَّ سَعت لتربية بَصيرة لأجيالها على مُثلها وعلى المقدس المشترك بين جميع الشرائح.
وأتفهم أنَّها ذات حمل رمزي ثقيل، يكون أحيانا فوق اعتبار المساومة والمُجاملة، فهي مُحاسبة بقسوة على هويتها تُراثًا وأعرافًا..
في الغَرْب، في مَلَكيَّاته الدستورية، وفي جمهورياته المُنبعثة من ثورات عتيقة، مازالت المَقامات محفوظة، والتَّسميات النبيلة معمولاً بها وبطقوسها الاحتفالية منذ العصور الوسطى إلى اليوم... وأبقت الثورات الغربية على أشراف ونبلاء، وعائلات كبيرة، ورجال دين لهم تاريخ متسلسل من المجد والرّفعة وقوة التأثير في المجتمع، يورِّثها سلفٌ لخلفٍ،
على يقين بأنَّ التَّنكر لبعض تفاصيل الماضي ، ليس الوصفة المثالية للتّصالح مع المستقبل.. الزمن كفيل بتحريرنا من قيودنا الطبقية، .. وراني بعدْ طارحه ابلد لأنواع التُّهم وسوء الفهم.. لَعَلَّ!
صفحة الدهماء ريم