لا يمكن أن نتحدث عن أي إصلاح أو تنمية في ظل هذه الفوضى العارمة التي نعيشها على هذه البقعة من الأرض. إنها فوضى عارمة في كل المجالات، وفي كل تفاصيل حياتنا اليومية: فوضى في الممارسة السياسية؛ فوضى في الفتوى؛ فوضى في الصحافة والتدوين؛ فوضى في منح الألقاب والأوسمة، فوضى في الإدارة؛ فوضى في حركة السير.
يكفي الواحد منا أن يلقي نظرة عابرة على حركة السير عند أي ملتقى طرق، ليدرك حجم الفوضى الذي نعيشه، والذي يشارك فيه الجميع : أصحاب السيارات الفاخرة وأصحاب السيارات المتهالكة؛ المتعلمون والأميون؛ الأغنياء والفقراء؛ الكبار والصغار؛ السائقون والمشاة.
على شوارعنا المتهالكة في أغلبها يمكن أن تجد صاحب شهادات عالية زار أغلب عواصم بلدان العالم يسد حركة السير بسيارته التي أوقفها وسط الطريق، ليثرثر مع شخص، أو ليشتري بضاعة من بائع احتل هو بدوره جزءا من الشارع لعرض بضاعته.
المستفز في الأمر هو أنك عندما تطلب من صاحب تلك السيارة أن يفتح لك ـ ولمن خفك ـ الطريق، يغضب ويقول لك بأن الشارع ليس شارعك، وكأنه شارعه هو الذي ورث ملكيته من آبائه وأجداده!!
يا أخي الشارع ليس ملكية لي ولا لك إن أسأنا استخدامه، وهو ملكٌ لي ولك إن استخدمناه بشكل صحيح.
على شوارعنا ـ وهذه واحدة من أغرب غرائبنا ـ يمكن أن تجد من نصنفه "مجنونا" ينظم حركة السير للأصحاء والعقلاء!! هناك على الأقل ثلاثة ملتقيات طرق في العاصمة نواكشوط يتولى في بعض الأحيان تنظيم حركة السير فيها "مجانين". أحدهم يضطر في أغلب الأوقات لأن يلوح بعصاه الغليظة حتى يخيف بها الأصحاء العقلاء، وذلك من أجل إجبارهم على أن يقودوا سياراتهم بطريقة صحيحة.
إن فوضوية الشارع هي انعكاس طبيعي لفوضوية الإدارة، وبين فوضوية الشارع وفوضوية الإدارة توجد علاقة قوية، ولتحديد طبيعة تلك العلاقة علينا أن نُذكر بالحقائق التالية:
ـ إن النخبة التي تقود المجتمع هي نفسها التي تقود السيارات على الشوارع هذا إذا ما استثنينا من يشتغل بالنقل أو من يمارس السياقة كمهنة
ـ إن ما يحدث في كل صباح أو في كل مساء عند ملتقيات الطرق يحدث شيء شبيه له داخل كل إداراتنا.
فعلى الشوارع هناك قلة من السائقين هي التي تلتزم بالنظام وهي التي تصل إلى ملتقيات الطرق دون أن تنحرف ولو قليلا عن الطريق، وهي تظل تنتظر حتى يُسْمَحَ لها بالمرور لتواصل طريقها المستقيم، وهذه الفئة القليلة جدا، ولكنها صامدة وقد جُبِلَ أهلها على الاستقامة، وهي لا تتأثر سلبا بغيرها، ولا بما يدور حولها.
هناك فئة ثانية وهي كثيرة جدا، ومناقضة تماما للفئة الأولى، وهي فئة ينحرف أصحابها عن الطريق في بداية المشوار، وينحرفون بشكل أوضح عند ملتقيات الطرق، فالانحراف هو من عادتها، وهي دائما تنجح في تجاوز ملتقيات الطرق بطرق ملتوية، وهو نجاح يزيد ـ في نهاية المطاف ـ من تعقيد حركة السير، بل وشللها في بعض الأحيان.
وهناك فئة ثالثة تحاول في البداية أن تتشبه بالفئة الصامدة المستقيمة، ولكن سرعان ما ينحرف أهلها، واحدا بعد واحد، تقليدا لأهل الفئة الثانية أي الفئة المنحرفة، وذلك لأنهم يشاهدون مع كل زحمة سير، أن أهل الفئة المنحرفة هم أول من يعبر.
شيء مشابه لهذا يحدث داخل الإدارة في مجال حركة التعيينات والترقيات والتوشيحات، فهناك قلة قليلة جدا من الموظفين معروفة بالاستقامة، وهي صابرة على الاستقامة، لا تتأثر سلبا بما يدور حولها من إغراءات تشجع على الانحراف..هذه الفئة تأتي دائما في المؤخرة في حركة التعيينات والترقيات، تماما كنظيرتها في حركة السير.
وهناك فئة ثانية من الموظفين، وهي فئة كبيرة جدا، تعتمد على الأساليب والطرق الملتوية كشبيهتها في حركة السير، هذه الفئة تتقدم دائما في حركة التعيينات والترقيات والتوشيحات، كما تتقدم نظيرتها في حركة السير، وتقدم هذه الفئة هو ما يؤدي إلى شلل الإدارة وتعطل مصالح الناس.
أما الفئة الثالثة التي تبدأ بالاستقامة وينتهي بها المطاف بالانحراف فهي موجودة كذلك في الإدارة , هذه الفئة التي تبدأ بالاستقامة، تضطر في النهاية إلى أن تنحرف، فهي تنحرف في الشوارع حتى تستفيد من "المزايا" التي تحصل عليها الفئة المنحرفة أصلا، أي العبور أولا. وهي تنحرف في الإدارة، حتى تستفيد من التعيينات والترقيات التي تحصل عليها الفئة المنحرفة أصلا.
ختاما
لن يكون بالإمكان تحقيق أي إصلاح في ظل هذه الفوضوية العارمة التي نعيشها، وما لم تُضبط حركة السير على الشارع، وحركة التعيينات والترقيات داخل الإدارة، فإن الطريق إلى الإصلاح لن يكون ـ بكل تأكيد ـ سالكا.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل