لأسباب مرتبطة ببعض الاهتمامات الشخصية في الوقت الراهن، اطلعت مؤخرا على مذكرات بعض الشخصيات الموريتانية من أجيال مختلفة، أفرزتها موضة كتابة المذكرات التي اجتاحت البلد خلال العشر سنوات الأخيرة، وأعدت قراءة أخرى كنت قد مررت بها من قبل، ويؤسفني أن أقول إنها باستثناءات معدودة، كانت فارغة وموغلة في الذاتية والتسطيح في أحيان كثيرة!
وجدتني أمام نماذج مختلفة، لكن خيطها الناظم هو أنها لا تستحق كل ما أحيطت به عند صدورها من هالة وحفاوة.
هناك من المذكرات ما يبهرك الاسم الكبير لصاحبه، ومحطات سيرته الإدارية أو السياسية أو الدبلوماسية، فتتلقفه باهتمام وتشوق، لكن بريق الاسم سيتلاشى من الصفحات الأولى للأسف، ولن يبقى غالبا حين تكمل القراءة من كل تلك المحطات والعناوين الكبيرة التي مررت بها سوى ذكرى حزينة لأن تلك الصورة الرائعة التي كانت لديك عن الرجل أصبحت هباء منثورا، وأسف عميق على الوقت والجهد الذي أضعته في تصفح وقراءة الكتاب.
وفي نوع آخر من المذكرات تجد النص مبوبا بشكل جيد، ومحررا وفق نسق منطقي وتسلسل سلس للأحداث التي عايشها المؤلف، لكنك حين تغوص في فصوله، تجدك أمام تكرار مضامين أوردها من سبقوه من جيله، أو مجرد استئناس ببعض القشور والكليشيهات التي يتناقلها العامة في كل المجالس عن المرحلة التي يتناولها!!
وهناك النوع الثالث وهو الأكثر انتشارا، ليس له من "الإيدام" إلا أن صاحبه حملته مصادفات واقعنا الخاص إلى مراتب سامية في الإدارة أو السياسة أو الدبلوماسية، لكنها لم تستطع أن تزيده على ذلك، فـ"ولد آدم ما يبتن مرتين" كما يقول المثل، فقد أحلته مقاما عليا لكنها لم تنفخ فيه من روح ما يناسب المقام!!
لذا يأتي هذا النوع من المؤلفات خلوا من المعطيات، لا يكشف سرا كبيرا ولا صغيرا من أسرار القرارات الوطنية، ولا يحمل جديدا ولا يعيد قديما، يفتقد للدقة حتى في تواريخ كبرى تتعلق بإحداث معروفة ومضبوطة، ولا يكلف تدقيقها سوى سؤال تلميذ في السنة الرابعة ابتدائي!
كل هؤلاء وغيرهم، لم يفهموا أنه ليس كل من قادته مصادفات واقعنا الخاص في كل شيء إلى منصب كبير، أو وضعته تحت يافطة إدارية أو سياسية براقة ولامعة، مطالب بأن يتوج حياته بمذكرات ليس لها من الحقيقة إلا الاسم، فقد لا يكون لديه ما يستحق النشر، وقد يكون، وهي الأرجح فعلا، لم يشترك في قرارات مصيرية، وكان مقامه "كومبارس" يتحرك على مسرح المسؤولية العامة، دون دور ولا وعي ولا قرار!!
قبل سنوات بعيدة سألت مسؤولا من جيل الاستقلال، وأنا معه في مزرعته الخاصة، وهو يرقب باستمتاع أوبة قطعانه من رحلة الرعي اليومية، ما جعله يتحرك برشاقة لا تناسب سنه، كما تحرك كثيرا على مسرح المسؤولية العامة خلال عقود:
- سيادة الرئيس - وقد مرت به تقلبات المسؤولية برئاسة البرلمان في مرحلة مفصلية من تاريخنا السياسي- لما ذا لا تكتبون مذكراتكم؟
فالتفت إلي وقال بدون تزويق ولا تنميق:
- ما ذا سأكتب؟!!
قبل أن يضيف وهو مازال على سجيته، متخلصا من كل "تمثيل" قد يقتضيه منه موقعه السابق في المسؤولية العامة:
- لم يكن لي دور في شيء.. يقال لنا افعلوا واتركوا، حتى رئاستي للبرلمان جاءتني دون ان أسعى إليها!!
ثم انتبه وهو يحدق في الغروب، فتذكر ربما حياته الآفلة، وقرب مغيب شمس آخر أيامه، فتحامل وتصنع شيئا من الوقار مشوبا ببعض الورع العابر:
- ما ذا سيقول شيخ مثلي في مذكراته.. إما أن أقول كل شيء، وسيغضب مني حتى المقربون، وإما ان أكذب، ومن هو في سني لا يليق به أن يكذب، وهو ذاهب يوما إلى ربه فردا!!
أكبرت في الرجل هذه الصراحة وهذا الورع، حتى وإن كان سببه لا شيء سوى أنه يعرف أنه لم يكن أكثر من "كومبارس" "يقال له افعل واترك".. ولم يرد أن يحوز البطولة حين ترجل الأبطال أو غاب من حضروا المرحلة.
وليت كثيرا ممن هم على شاكلته رضوا بما رضي به، وقنعوا بالبقاء، كما كانوا دائما، في مكانهم الطبيعي.