كان الوقت مساء، والشمس تدنو من المغيب، و الأفق يلقي بضيائه الكئيب حواليها معلنا عن رحيل كاسف باللون البرتقالي المخضب بخيوط ضئيلة فيما تظهر أطرافها القانية متجاورة حينا، ومتباعدة عن بعضها البعض احيانا..
وحينها رن الهاتف، فقالت (.،،،) لعل عندك مكالمة، مثل تلك المكالمات الطويلة السابقة، فقلت في نفسي، يزعمون أن حدس المرأة، لا يكذب،، لكنه هذه المرة، يحاول اكثر من ذلك إظهار انزعاجها الداخلي باحتقان لفظي ماكر، تجاه اصحاب تلك المكالمات المسائية التي لا تعلم مع من كانت، ولمن تكون؟!
وفي كل الاحوال، رفعت الهاتف، وكان الصوت مألوفا على مسامعي..
فقلت :
مساء الخير،، اذا لم تكوني الهندية الحداثية، فمن انت؟، وكيف حال الهند، ومسيرتها النهضوية المظفرة؟
معزة غاندي:
نعم.
صباح النور..
كما توقعتني، ربما اكون قد ازعجتك بهذا الاتصال الذي كنت مضطرة له؟
قلت:
لا، بالعكس، انا مرتاح لاتصالاتك التي تقدمين فيها الجديد لي، كلما تحدثت معي، لكن ما هو موضوع حديثك الحالي، وما الجديد فيه؟
معزة غاندي:
اريد ان اعرف منك بعض المناكفات، فانتم في المجتمعات العربية ثقافتكم واحدة، أليس كذلك؟
قلت :
بلى، وما الغريب في ذلك، ونحن أمة لاتزيد الا قليلا على ٤٠٠ مليون، في حين أن الهند تزيد على المليار ونصف تقريبا،،؟
معزة غاندي:
إن في مجتمعاتكم المغاربية، يقال: - في امثالكم - "طارت، ولو معزة"، مفضلين المعزة البرية، الغزالة على المعزة الأليفة، المؤنسنة في الوقت الذي كانت الاولى، لا تنال الا بمشقة في رحلة صيد، ان نجحت في اصطيادها في حين أن المعزة الأخرى، سهلة التناول في استحلابها، و حتى في قتلها، وأكل لحمها، ومع ذلك، فالمقارنة المذكورة هي لتفضيل الأولى على الثانية، وتبخيس قيمتها... !
قلت:
هذا المثل من الأمثال المتداولة، وقد عبر الكثير منها عن بيئات اجتماعية في الصحاري، والبراري، والجبال، وكذلك في المراكز الحضارية، لكن تداول بعضها حاليا، خرج عن نطاق التفضيل، والتبخيس بين المعزتين المذكورتين..
فيقال حاليا في الوسط الثقافي لدى النخبة السياسية، "طارت، ولو معزة"، والمقصود ليس المقارنة التفضيلية السابقة، وإنما لتوصيف ثقافة افراد النخبة حين يوظفون معارفهم للتكسب السياسي، بدلا من التوعية الثقافية، و الدفاع عن الحقوق المدنية للمواطنين، والدفاع عن استقلال الاوطان (مقاطعة)
معزة غاندي:
في هذه الحالة، لا بد ان اكظم الغيظ، لأشير إلى أني تفاجأت بالكتابات في المواقع الافتراضية المشهورة في بلادكم،، وكم من كاتب، كان يكتب من قبل في مجالات الثقافة، والإصلاح الاجتماعي، والسياسي، لكن الغالبية في هذه الآونة، وصلت كتاباتها الى "درجة الصفر في الكتابة" - على حد تعبير " رولان بارت" - في توصيف الكتابة الرومانسية الحالمة بجمال الطبيعة، والتغني بها، بقدر هروب اصحابها عن مواجهة الواقع الاجتماعي، ومواساة الآخرين في عذاباتهم، وتجاهل مشاكل المجتمع، والاسرة، والفرد، وأزمة الانظمة السياسية التي لا تنزع نحو التحديث، بل بين المنزلتين، حين تكون مظاهر التخلف الاجتماعي، كامطار الخريف عندكم في هذه الآونة، حيث تكاد تغمر، مظاهر المدنية، اجتماعيا، وحضريا ..
قلت:
هل قيل لك أنك جريئة في توصيفك الذي يزعج الكتاب الذين يكتبون لأنفسهم، وليس للقراء، كما تعتقدين، وكنت اعتقد مثلك سابقا، واذا تجرأ احد ما، وابدى رأيه، فيما يقرؤ في وسائل التواصل الاجتماعي، أو في المواقع الافتراضية..
فربما يفاجأ بالعلاقات الاجتماعية في بلادنا، كما ان المعزات تتجاوبن في الصياح كلما التقين ، كذلك نحن لنا أصدقاء حميمين، وقد نبيع الثقافة في سبيل رضاهم ..!
لذلك، يمكنك ان تقولي ما تشائين من ملاحظات موضوعية غير خادشة للحياء الاجتماعي، والميزاج الأخوي..وحسبي أن استمع إليك دون أن أشاركك الحديث ...
معزة غاندي:
هذا التفكير، ليس حداثيا، وقد سجلته عليك، لأنه لا يعبر عن الفهم السليم، ولا الجدية التي عرفتك بها في محاولة تفسير الظواهر الثقافية، واستبطان السلوك الاجتماعي الموجه بالقيم الاخلاقية، او بالحوافز المادية، والدوافع الفردية لشكيل الوعي في اتجاهات الرأي العام...
وكم من كاتب عندكم، تتبعت مقالاته، وكانت رؤاه متباينة حسب" الجدل النازل" - عند أصحاب الفكر التجريدي - فيكتب عن الثقافة، و تحليل الاحداث، والظواهر في المجتمعات المعاصرة، إلى الوعي السياسي في أسوأ مظاهره، كالدعاية الهابطة، لدرجة يتهيأ لي أن الكاتب في مواقعكم يكاد أن يصبح راقصا في حفلات الرقص الشرقي، فلم يبق له إلا ان يهز خصره، ومؤخرته..
وتارة تحسبه في حفلات الرقص الافريقي، واقفا على رأسه، وطرفيه، ويراقص رجليه في الهواء الطلق..! وإذا كان في كلامي مبالغة، فما عليك إلا أن تنظر، فيم يتبارى الكتاب في كتاباتهم الحالية عن السنوات الثلاث، وانجازاتها...؟!
فقد تحول الكتاب عندكم إلى ما ذكره سابقا، احد الكتاب فيما اخذه عليهم من الترويج للدعاية الرخيصة حين استعاروا أدوار المطرب التقليدي قبل ستين سنة..!
قلت:
ربما انت هندية ساحرة فعلا،، فمن اخبرك بهذا، قبل استقرائك الناقص خلال قراءاتك الجزئية في المواقع الافتراضية..
وكأنك عايشت فترات، كان المثقف في بلادنا يستحلف أصحابه، أن يعطوه فرصة للحديث، فقال على مسامع الملأ، إنه سيرفع قضية على رئيس البلاد، اذا لم يترشح، لأنه الوحيد المستحق للمنصب الرئاسي، و سيقاضيه بالنيابة عن الشعب،، وهذا الموقف النسبي الطريف، سبقه الحديث في وسائل الاعلام، وتدبيج الأراجيز ل " هيدالة، ما كيفت الرجالة"، وتلا ذلك " صفقوا للرئيس" ، ثم ظهر التفكير الخرافي للشرق القديم، كنظرية " تناسخ" الأرواح، وانبعاث جمال عبد الناصر في القصر الرئاسي في عاصمتنا العزيزة...!
لكن سؤالي لك، هل لا حظت من قراءاتك في مواقعنا الافتراضية كتابة لواحد من كتابنا، يمكن اخضاعها" للجدل الصاعد" واقصد الانتقال من الدعاية الهابطة، الى السياسة المدنية، إلى انتاج الثقافة وصفا، وتحليلا، ونقدا تعليميا،، ؟
معزة غاندي:
أتمنى عليك أن تعطيني فرصة أخرى، للإطلاع على الكتابات، بعد انطفاء شعلة هذه التظاهرة الاعلامية في مياه الامطار بعيد رصدها للمحاصيل التي بقيت في الشتلات لثلاث سنوات، وقد حان قطافها، واحصاؤها عدا، ونقدا في العاصمتين، والولايات، والمقاطعات، والقرى، وهذه حقائق، لا ينكرها إلا من هو غير منصف في زمن اتسم بالانصاف، والعدل لله الحمد، و الأعتدال على الهامات، والقمم الثقافية " قمم قمم، معزى على غنم" على حد تعبير الراحل مظفر الشاعر العربي ..
ولن يكون تأخيري، أسوأ من تأخير "،التطبيع" الحمساوي، الذي انساق خلف "التطبيع" منذ جاهر بالأخير حزبي العثماني في المغرب، والأردوغاني في تركيا، تلك الأمة التي لا يمجدها، إلا التخلف السياسي في أمة العرب،، يا عرب!