كانت فرنسا سباقة لاحتلال السنغال وإقامة مركز تجاري في مدينة سينلوي؛ لكنها فقدت نفوذها فيه بعد ماعُرف بحرب السنوات السبع (1756 -1763 ) بينها وبين المملكة المتحدة.
وبعد قرابة سبعة عقود وتحديدا في العام 1817م أعادت بريطانيا السنغال إلى فرنسا خلال ما سُمي بالسباق إلى إفريقيا Race of Africa ؛ ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم صارت السنغال مجالا للنفوذ الفرنسي دون منازع؛ وهو ما يظهر في مسميات الشوارع في المدن الكبرى؛ فقد سبق للمؤرخ والأكاديمي السنغالي إيبا درم ثيام أن نبه إلى أن استمرار حمل الشوارع المهمة في السنغال لأسماء جنود فرنسيين..."أمر مؤلم ".
والحق أن استئثار فرنسا بالسنغال جعلها نموذجا للاستقرار والديمقراطية في الغرب الإفريقي الذي لم تسلم دوله من حمى الانقلابات؛ التي أدت لاختلالات عميقة هددت بنيات معظم الدول في شبه المنطقة.
لقد ساهمت عوامل عدة في جعل السنغال دولة مستقرة لعل أبرزها:
- دور الحركات الصوفية؛ فالمريدية التي أسسها الشيخ أحمدو بمبا في العام 1927 ؛ والذي تحولت ذكرى نفيه إلى الغابون لمناسبة دينية يشارك في إحيائها ملايين الأتباع في موسم "مكال توبا" الشهير.
هذا التأثير القوي للمريدية لعب دوراً كبيراً في ترسيخ وحدة وطنية ذات أبعاد روحية لها تأثيرها العميق على معظم رجالات السياسة في البلد؛ وهو أمر جعل وجهات النظر غير قابلة للخروج عن بوتقتها الروحية التقليدية.
- التيجانية: ما ينطبق على المريدية ينطبق في معظم تجلياته على اتباع الطريقية التيجانية التي اتخذت من مدينة كولخ عاصمةً روحية لها؛ والشيء المميز في هاتين الحركتين أن اتباعهما لم يتجاوزوا خط الهدنة طوال قرن من الزمن تقريبا؛ فلم يكفر الاتباع بعضهم بعضا؛ ولم تنشأ عن اختلاف التصورات خلافات يمكن ان تكون سببا في تقسيم المجتمع؛ بل إنهما ساهمتا بشكل كبير في توطيد السلم الأهلي و سلطة الدولة على المجتمع.
استطاعت السنغال توظيف نفوذ التصوف بشقيه لصالحها عبر دبلوماسية روحية اعتمدت مقاربتين تتعلق أولهما بتذليل الصعوبات الخارجية؛ أما الثانية فسخرت لحل فتيل الأزمات الداخلية التي تمر بها البلاد من حين لآخر.
لا شك أن ظهور الحركة الانفصالية في الجنوب والتي اطلقت على نفسها حركة القوى الديمقراطية لكازاماس برئاسة القس أوغسطين دياماكون سنغور عام 1982 ؛ أثر بشكل ما على استقرار بلاد أسود التيرينكا؛ لكنه لم يصل درجة الخطر الذي يهدد كيان الدولة واستمراريتها.
الإيديولوجيا أداة للتفكك:
ربما لا يدرك الكثير من المتابعين للشأن السنغالي أن ثمة شرخاً عميقًا أحدثته الاختلافات الأديولوجية بين السلفية والصوفية ؛ فلأول مرة تظهر للعلن حرب كلامية طاحنة يُكفر فيها أتباع التصوف وبشكل حطم تلك القداسة التي حظي بها شيوخ الطرق الصوفية لعقود؛ ويعتبر الاختلاف الجوهري في تحديد رؤية هلال شهر رمضان الماضي نموذجا على هذا الانقسام الحاد الآخذ في الانتشار بين مكونات الشعب السنغالي والذي تغذيه وسائل إعلام محلية تعتمد منهج الشيطنة..في ظل صمت محير من أصحاب القرار الذين عجزوا حتى الآن عن وقف امتداد هذه الظاهرة التي تنبئ "بنجيرية" السنغال وظهور جماعات مسلحة في مناطق عدة من البلد على غرار بوكو حرام.
لعنة الثروة:
لاشك أن اكتشاف احتياطات مهمة من الغاز في السنغال أسال لعاب قوى دولية أخرى لها أطماعها التي تسعى لتحقيقها من خلال هزات عنيفة ستستهدف بالضرورة النفوذ الفرنسي باعتباره عائقاً حقيقياً أمام أهدافها؛ لذلك ليس من الغريب أن يتم التركيز على نهب شركات فرنسية في قلب العاصمة دكار العام الماضي وترفع شعارات من قبيل la France dégage؛ في رسالة بالغة الدلالة؛ كما أنه ليس من باب الصدفة أن يحظى المعارض السنغالي عثمان سونكو باهتام إعلامي كبير . خصوصا وأنه يعتمد أسلوبا تحريضيا يصادف هوى في نفوس الشباب الحالمين بمستقبل أفضل من جهة؛ ويتناغم مع متطلبات الفوضى الخلاقة التي تسعى لها قوى دولية بعينهامن جهة أخرى .
أحلام تتحول للعنف:
اعتقد الكثير من السنغاليين أن دولتهم ستقفز في لحظة إلى قائمة الدول الغنية في العالم؛ فروجت وسائل إعلام محلية مؤثرة للتحول الجذري في دخل الفرد السنغالي الذي سينافس مواطن سلطنة ابروناي ودول الخليج.
فجأة وبدون سابق انذار تبخرت كل الوعود وطفت على السطح فضائح الصفقات مع شركات كبرى ابرمها شقيق الرئيس الحالي ماكي صل.. الأمر الذي أدى لموجة من الاحتجاجات ستساهم عوامل لاحقة في جعلها أكثرة حدة؛ مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأكرانية... وليست التظاهرة المقررة في 29 من الشهر الجاري سوى مؤشر لتغيرات جذرية جديدة في السنغال؛ قد لا تكن سلمية بحسب المراقبين.
الطريق إلى التفكك إذن برزت بوادره في الانقسام الروحي العميق للمجتمع السنغالي؛ مدفوعا بأزمات اقتصادية حادة انعكست في أعمال عنف قد تخرج في أية لحظة عن السيطرة مؤذنة بتفكيك دولة ظلت لعقود نموذجا للاستقرار في غرب إفريقيا.
د. أمم ولد عبد الله