كنز الطينطان يذكرني ببترول انواذيبو الذي كتبت عنه منذ سنوات مقالا أعيد نشره بالمناسبة.
في بداية ثمانينات القرن المنصرم كنت تلميذا في ثانوية انواذيبو، وذات يوم خرجنا في استراحة العاشرة وكان حديث الساعة في الساحة أن البترول اكتشف في الحي السكني لشركة "اسنيم" القريب، لم يكن للثانوية سور آنذاك فركضت مع بعض الزملاء إلى مكان الاكتشاف الذي لا يبعـد إلا كيلومترا واحدا أو يزيد قليلا.. كانت أسرة فقـيرة، تقطن كوخا، في "كزرة" مقابلة للمدخل الأوسط لحي (سيتي اسنيم) تحفر لإقامة مرحاض ومع تقدم الحفر اكتشف الحفار أنه بدلا من الماء يمتاح، من قعر البئر، البترول بل البنزين بذاته وصفاته..
سرعان ما علمت السلطات فاتخذت تدابير لحراسة الموقع.. وملأت فرقة الحراسة قنينات من السائل المستخرج عساها تصد بها هجوم الفضوليين عن البئر التي بدأت آمال الأمة تنعقد عليها.. وتصادف وجودنا مع وصول خبراء جزائريين من شركة "نافتال" المشرفة على تسيير مصفاة لتكرير البترول (كانت موريتانيا تملكها آنذاك) سمعت أحدهم يقول بأن البنزين لا يوجد في الطبيعة وإنما يشتق من البترول بوسائل صناعية.. وعيت ما قاله الرجل فقد كنت حديث العهد بدرس البترول والبنزين وبشروح معلمتي منينة بنت لجدام رحمها الله، زوجة مدير مدرسة كانصادو الابتدائية السيد جدو اتراوري، الذي لا أعلم عنه الآن.. فعدت منكسرا لمتابعة الدرس في السنة الثانية أو الثالثة إعدادية، لم أعد أذكر أيهما.
أما ساكنة المدينة فقد انتعشت ودب فيها الأمل وشاع أن ظروف الوطن ستتغير وستلج موريتانيا باب الرفاه، وأن سكان حي اسنيم السعداء الذين يقيمون في غرف ضيقة سيرحلون إلى فيلاهات فارهة، طوبى لهم وكذلك الأحياء المحاذية حتى الثانوية.. فلا بد من مجال واسع للمنشآت والمصانع..
وبعد التحري تبين أن بقعة البنزين المكتشفة ناتجة عن خرق في خزان أرضي بمحطة وقود مقابلة تسرب منها السائل في فترات سابقة وبقي محشورا في الطبقات الصخرية فرفع الحجز عن الأسرة وانفض الناس عن بئر النحس التي سلكت مسار المراحيض بعد أن أوشكت على أن تكون بئرا نفطية مباركة.. ومن يدري فقد تنتج النفط يوما ما.
ومع الزمن تقاعد بعض العمال وانتقل البعض إلى الرفيق الأعلى وبدأت سقوف حي (سيتي اسنيم) تخر والساكنة تهجره شيئا فشيئا. وعندما لاح طيف المنطقة الحرة في انواذيبو، تنازلت الشركة الوطنية للصناعة والمناجم عن حيها ودخلت آليات لهدم الدور. وحده المسجد، الذي استحت الجرافات من هدمه، ما زال قائما، يوم كتابة هذا المقال، إلا أنه أصبح وسط ركام مخيف.
وفي مستهل القرن الحالي أعلن عن اكتشافات بترولية في المياه الموريتانية، أحيت الأمل في نفوس المواطنين، قال بعض الأدباء المشاكسين حينها "إن السمك أنتن من البترول إلا أننا لم نشتم له رائحة" وكان الشاعــر محمد فال ولد محمد حرمه، يراقب الحدث من انواذيبو، فأنشد رباعيته الجميلة:
صاح اللصوص وقالوا إنه العجب *** في بحرنا النفط، فيه الأسود الذهب
صاحوا بذلك إعلانا ومنتظر ***
فوق المنابر أن تعلو به الخطب
والشعب يعلم ما أسرار صيحتهم *** والبحر يعلم مثل الشعب ما السبب
لا طعم للنفط والدنيا بجانبهم *** فليتهم ذهبوا أو ليته كذب
تحققت أمنية الشاعر بشطريها ذهب الحاكم وتبين أن الكلام عن البترول أكثر من البترول نفسه. نعم كذبة ولكنها بعثت فينا أملا أنعشنا حينا من الدهر وبسببها نظم الشعراء كلاما ننشده للتخلص من الهموم.
هذه حكايات من أدب البترول عشناها في الشطر الشمالي من وطننا ولا بد أن للغاز أثر في الشطر الجنوبي، فما حكايته في اترارزة يا ترى؟
أتوقع أن يكتب البعض في الموضوع، فلا أقل من أن ننتهز فرصة الحديث عن الاكتشافات البترولية للتسلية المشروعة قبل أن "تعود الحياة إلى تعاستها المعتادة" فيتبين أن الغاز مبالغ فيه أو أن يكون البترول واقعا ننغمس في روائحه النتنة وحساباته وفنياته فتتبلد القرائح فلا يكون أدب ولا شعــر.
محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم