الإنسان بطبعه خير وبطبعه متسلط وبطبعه عصبي وبطبعه عنصري وبطبعه أناني ومع ذلك يتصف بالكثير من الصفات الحميدة التي يكتسبها ويتحلى بها ومن أنبلها وأهمها الإيثار. فالصالحون والمصلحون يبحثون عن مظان الخير من أجل الخير للغير، فيضعون مصالحهم ورغباتهم جانبا من أجل المصلحة العامة ويتسامون عن مصالحهم الفردية رافضين الوساوس الداخلية والأنا المتضخم أصلا.
عند تأسيس الدولة الإسلامية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم الدولة بادءً بالإيثار السياسي، فالمهاجرون ماقصدوا يثرب طالبين المال ولا الجاه ولا السلطة، بل جاءوا لبناء مجتمع يعبد فيه الله وتتعايش مكوناته في إنسجام تام وأخوة ومحبة متبادلة، وعندما يتوفر ذلك سيحصل البناء والتقدم والإزدهار والمال،فكان الأنصار رضي الله عنهم نموذجا في الفضل والأخوة والمحبة والإنسانية بحثا عن المصلحة العامة متشبعين بإيمان قوي ومتسلحين بفضيلة الإيثار إتجاه إخوتهم في الدين والوطن.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه بدأت إرهاصات الخلاف السياسي بين الصحابة رضي الله عنهم وظهر طموح الرجال والتباين في قدراتهم على الإقناع والقيادة والسيادة، وبرزت الحمية والعصبية والجهوية وكاد الطموح السياسي يعصف بالمجتمع لولا فضيلة الإيثار السياسي.
لقد حسمت الخلافة سياسيا وسياسيا فقط، ووقف الفاروق مبايعا الصديق رضي الله عنهما، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا رجالا أصحاب أفكار متقدة وطموح كبير ونظرات عميقة....بايع الأنصار رضي الله عنهم إيثارا وظلت البيعة هكذا قبل أن يرفض معاوية بيعة علي رضي الله عنهما وهو يدرك تماما مايترتب على ذلك ومستعد لدفع الثمن.
إستحضرت مقتطفات من تاريخ المشهد السياسي لتاريخنا الإسلامي وأنا أفكر في حال بلدنا ومجتمعنا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا والسلطة والحوار والتشاور والعجز والضياع الذي نعيش فيه منذ سلمت فرنسا السلطة.
عندما قرأت مذكرات الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله ( موريتانيا بين الريح والإعصار) إطلعت على الظروف التي إكتنفت بناء السلطة والتوجه الذي سار فيه الرجل والذي انتهى به إلى إقصاء كل الذين دعموه ورافقوه في خطواته الأولى من المشهد وخاصة سيدي المختار ولد يحي انجاي، حتى انفرد الرجل بالسلطة. ماحدث عند الإستقلال لم يكن بناء دولة بل تسيير سلطة تحت الوصاية الفرنسية ولم يستطع الذين اسندت لهم فرنسا هذه المسؤولية تقديم مشروع بناء دولة على أساس قرارات ثورية مؤلمة كان لا بد منها من أجل التأسيس في محيط جغرافي لم يعرف الإنسجام والنظام في تاريخه.
كان المجتمع الموريتاني يومها أرضا بكرا يمكن أن يرسم ويبنى عليها أساس قوي لبناء دولة قوية، لكن أولئك الذين تولوا تسير السلطة لم يكونوا قوة متجانسة ولا موحدة ولا مكونة لبناء الدولة. من مساويء الإستعمار الفرنسي أنه لم يزرع بذورا سياسية ولا ديمقراطية في المستعمرات التي حكمها. تذكرت هذه الحقيقة التي سمعتها من أحد أساتذتي الفرنسيين في جامعة رنس الفرنسية أثناء إمتحان شفهي في العلاقات الدولية وأنا أحضر ماستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
كانت فترة تسيير السلطة تحت وصاية فرنسا من طرف أعوان الإدارة الفرنسية فترة إنتهازية سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية لم يستفد منها الشعب بل بعض المجموعات النافذة، أما الغالبية العظمى من المظلومين والمنسيين والمهمشين فلم تكن في أولويات المسؤولين ولا تفكيرهم لذلك صاحبت الفترة إختلالات كبيرة مازالت تلقي بظلالها على مسيرتنا المتعثرة ونتج عنها تآكل العقد الاجتماعي الذي يكاد ينفرط.
اليوم ومرورا بكل المراحل السابقة فيمكننا القول إننا مازلنا في مرحلة التأسيس من أجل بناء الدولة ووضع لبنات قوية مكان الثغرات القديمة وهذه هي الحقيقة التي نشاهدها من خلال دعوات الإنصاف والعدالة والمساواة التي ترفعها كل مكونات الشعب الموريتاني.
في هذه المرحلة بالذات ومع وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الى السلطة رفع شعار الإنصاف وتحدث بصراحة ووضوح غير مسبوقين عن الظلم التاريخي والغبن والتهميش وفشل الإدارة في خدمة المواطنين وتصحيح الإختلالات........! وهو محق في ذلك تماما، فلا فائدة من السياسة إذا لم ترسي قواعد حكم ديمقراطي وإدارة خالصة لخدمة المواطن خالية من أصحاب الأفكار الضيقة والمفسدين الذين أهلكوا الحرث والنسل. لا فائدة من ديمقراطية لا تضمن التناوب على السلطة بعيدا عن مفهوم الإنتقام والشرائحية والعصبية والقبلية وتمكن من إختيار المسؤولين على أساس الكفاءة والنزاهة وتقيم مبدأ العقوبة والمكافأة.
فهل سيكون التشاور المرتقب فرصة للتصحيح ومناسبة لتقديم الإيثار السياسي كخصلة وصفة وأساسا للتعاون والتضامن والوحدة والعمل المشترك من أجل هذا الوطن...!!!
من الضروري ان يفهم ممثلي الأحزاب السياسية الذين انتدبوا انفسهم للتشاور بإسمنا ومن أجلنا أن الشعب لم يوفض الأحزاب للتشاور بإسمه ولا يستندون في ذلك على أي أساس قانوني، فل يتجردوا إذا من الأنا والأنانية معا حتى مع الضرورة والخصاصة ويتسلحون بمبدإ الإيثار السياسي الذي كان النواة الأولى لتأسيس الدولة أيام الخلافة، وليفهموا أنهم ليسوا طرفا ضد الدولة ولا السلطة.
إن بناء هذا الوطن يتطلب اجماعا وطنيا لابد له من تضافر الجهود وتوحيدها وسيادة القانون والعدالة والمساواة وإشاعة ثقافة الإيثار السياسي والإنصاف، والتفكير في هذا البلد والمجتمع الذي لم يتشاور يوما لوضع أسس الدولة ولا نظامها السياسي ولا تقاسم ثروتها بعدالة ومع ذلك لم يغب عنه التشاور والحوار يوما.
صحيح أن التاريخ لا يحفظ إلا أسماء القادة لكن الجنود هم من يحسم المعركة ويصنع النصر...! فهل يعي ذلك السياسيون ؟