قرأت في هذا الفضاء مباركات وتهانئ لمجموعة من الناجحين في سلك الأساتذة فالحمد لله على كل حال، وبعض الشر أهون من بعض.
تحولت مهنة الأستاذ منذ أمد بعيد مع بعضنا إلى وسيلة للتخلص من البطالة، بعد أن كانت في سالف أمرها هواية لتبليغ رسالة نبيلة تنفع الناس في دنياهم وأخراهم...
لم تفقد المهنة تلك الميزة، لكنها فقدت كثيرا من ألقها وكبريائها بعد أن اختلط فيها الهازل بالجاد، ودخلها بعض من لايؤمن بها، ولا يمثلها أمانة ومستوى، ولا يعطيها من الإجلال ما تستحق...
فتحولت إلى عبور غير آمن إلى وديان الجدب، والقحط، والفقر المتواصل...
لذلك نرى أكثر هؤلاء يحاولون مغادرتها من أول يوم مطبقين مقولة خذ خيرها ولا تجعلها وطنا...
نهضت فيها وما بلغت العشرين، ونيفت فيها على الخمسين، ومررت بمراحل الخضرمة كلها، وثنت ظهري عواصفها الهوج، ثم خرجت منها مكتفيا من الغنيمة بالإياب...
خلال 35 سنة من الخدمة المتواصلة، والتدحرج البطيئ بين المدارج السفلية فيها لم يسمح لي راتبي بشراء بقرة أو ناقة، بيتي المتواضع بنيته بالاستلاف من المصارف، وتعرفون محق البنوك لراتب الموظف البسيط، اشتريت سيارة في آخر عمري المهني بالاقتراض أيضا ثم بعتها لسداد بقية دينها، وما قمت بإنجاز مشروع حقير في ميزان بعضنا- كبناء مرحاض مثلا- إلا بالسلفة...وكم حيرني امتلاك بعض زملائي الأساتذة للبقر، والسيارات، وقدرتهم على بناء الفلل، ما أجزم به هو أنهم لم ينجزوا ذلك من صافي رواتبهم...
عندما تقاعدت سنة 2018 كان تعويض المعاش نيفا وسبعين ألف أوقية، تسدد كل ثلاثة أشهر وعشرة أيام، فجمعوا للمتقاعدين بين عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها...
أخي مشروع الأستاذ، اعلم أنك قد أنزلت أهلك ونفسك بواد غير ذي زرع، وبلا دعوة مباركة من إبراهيم، سيكون أمامك خياران أحلاهما مر:
- إن تف بوعدك وتؤد أمانتك فابشر بفقر مقذع، وشقوة ما لها انقطاع، وديون تتعدد، ومآسي تتجدد، ستعيش أوقاتا عشناها مثلك، تشبه تناول مسكنات الألم، ستحلم في أيام نضال متفاوتة أنك على عتبة مدينة السلام والرخاء، وستدرك بعد أن يشيب عارضاك أنها أضغاث أحلام، وأن السنوات العجاف تواصل التناسل، والتكاثر بلا توقف...وستعيش محنة التشظي في جسمكم المشترك لتخوين المخلصين، وتثبيط همم الشرفاء..
- الخيار الثاني أن تهيم بدعد أخرى، وتحاول جمع ضرتين، فتجد نفسك قد مللت من الثيب(مدرستك الرسمية)، وأغرتك الأبكار(المدارس الخصوصية) لتطيل إقامتك في خدورها، فتعجز عن العدل، وتضيع حقوق الأولى وبنيها وفي ذلك أخي الأستاذ من عاجل الشر وآجله ما لا يخطر على البال، ولا ينجو منه إلا صفوة الصفوة من الأتقياء المؤمنين.
أخي المقبل على مهنة الفقر، والتعب، والامتهان، تجلد جهد نفسك للمآسي، إياك أن تحلم فما لليلك فجر..
قد تدفع وأنت في ذروة الألم جزءا من كرامتك في سبيل تحسن صوري لوضعيتك، ستضيف إلى رقك الوظيفي رقا آخر أشد هبوطا وإذلالا لشرف الأستاذ، أن تحابيَ الكبار، وتمرغ كرامتك فوق نعالهم لينفعوك بما تزعم أنه تحسين وضعية، كتحويل، أو تخفيف، أو تفريغ، أو ترقية هزيلة، مقابل ولاء سياسي تكون يداك فيه فداء ليدي سيدك من نار الشواء، ويكون لسانك مطيته في فجوره و إساءته إلى الآخرين، ستشعر أنك صرت عبدا وتقول بعد أن يصحو ضميرك يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا...
طرفة:
كان راتبي يوم تخرجت سنة 1983 أكثر من 23000 أوقية، وكان ثمن الكبش الكبير أيامها يتراوح بين 700 و 800 أوقية، أي أني كنت أستطيع شراء 28 كبشا وتبقى لي(انحاسه)، أما اليوم فصار الكبش المتوسط بحوالي 50000 أوقية، ولأشتري 28 كبشا كما كنت أستطيع من قبل فلا بد لي من 1400000 أوقية...
أخي العزيز ستتألم كثيرا حين تدرك أنك وأنت المقاتل في أخطر السوح وأنبلها، تحصل خلال عمرك المهني كله، بغربتك وجوعك ومرضك وفقرك وحضورك المتواصل(وأنت تخدم في فصاله وأهلك في كرمسين، وراءك والدان ضعيفان، وصبية صغار) على مبلغ مجهري لا يرضى به بعض محظيينا ثمنا ل(باش) سيارته...
ستجد نفسك بعد التقاعد طالب إحسان بتوظيف صوري، أو سائقا يتطاول عليك أجلاف المسافرين، أو متوكئا على عصا صبرك لتقديم الدروس في فصول أنت فيها غريب، شكلا، وأفكارا، ومعارف.
وبعد: سكت عن كثير خوفا من الصدمات القاسية.