"بدون أوكرانيا لن تتمكن روسيا من استعادة وضعها كامبراطورية عظمى" .. هكذا خلص ازبغنيو بريجنسكي Zbigniew Brzezinski (1928- 2017) في كتابه هذا الصادر في نهاية تسعينيات القرن الماضي..
تكتسب كتابات بريجنسكي مصداقيتها من خلال تركيزه على تبيان الأهمية الاستراتيجية للحزام الأوراسي من أجل احتواء روسيا والصين، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
عمل بريجنسكي ذو الأصل البولندي والحاصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1953، مستشارا للأمن القومي مع عدة رؤساء أمريكيين مثل كارتر، قبل أن يتفرغ ويصبح مفكرا إستراتيجيا من طراز رفيع، حيث عمل مستشارا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، وأستاذا للسياسة الخارجية الأميركية في جامعة جون هوبكنز المرموقة.
تميز بريجنسكي بأنه يعرض وجهة نظر مخالفة غالبا للآراء السائدة لدى الجمهور (الميديا) مثل نهاية التاريخ وصدام الحضارات.
في أوائل عام 1994، وبعد 4 سنوات من انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وصف مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي، أوكرانيا القوية والمستقرة بأنها ثقل موازن حاسم لروسيا، وينبغي أن تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة..
كان بريجنسكي أحد أهم مهندسي تحالف واشنطن مع "المجاهدين" الأفغان -كما كانت تسميهم آنذاك CIA- من أجل دفع الاتحاد السوفياتي للانسحاب من أفغانستان. كما أنه خطط لتوصيل أسلحة مصرية وسعودية وباكستانية، إضافة لمقاتلين عرب، إلى داخل أفغانستان من أجل هزيمة الجيش السوفياتي وإذلاله. ولبريجنسكي صورة شهيرة مع قادة "المجاهدين" . وقد صفهم ذات يوم من فوق دبابة سوفياتية، بأنهم مقاتلون من أجل الحرية. لذا لم تكن مفاجأة أن ينال بريجنسكي قسطا كبيرا من اللوم عندما وقعت هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة بأيدي جماعات ساهم برجينسكي شخصيا في رعايتها وتمويلها وتسليحها يوما ما.
لقد حذر برجينسكي بعد انتهاء الحرب الباردة، من إذلال روسيا، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن يقول له دبلوماسي روسي يعمل في سفارة بلاده بواشنطن ذات يوم إن "المعضلة الحقيقية في علاقتنا بالولايات المتحدة محورها هو اعتقادهم أن الحرب الباردة انتهت بانتصارهم وهزيمتنا، ولذا يتبنون سلوك المنتصر ويتوقعون منا سلوك المنهزم". وأضاف الدبلوماسي "نحن نرى أن الحرب الباردة انتهت دون إطلاق نار، ودون منتصر ولا منهزم"، وهذا هو جوهر الخلافات بين موسكو وواشنطن في العديد من القضايا العالمية، وعلى رأسها مصير أوكرانيا، الدولة المجاورة لروسيا والتي لا يعرف أغلب الأميركيين موقعها على الخريطة.
بدأ بريجنسكي حياته المهنية كرائد، حيث كان هذا الكاثوليكي البولندي المولد، من أوائل العلماء المتخصصين في السياسة الدولية ممن كان لهم تأثير قوي في الشؤون الخارجية الأمريكية.. لقد اقتحم بريجنسكي مجال السياسة الخارجية الأمريكية بعد أن ظل لفترة طويلة حكرا على المصرفيين والمحامين ورجال الأعمال من النخبة التقليدية من الفئة الضيقة (البروتستانت الأنجلو ساكسونيين البيض). وقد ساعده في ذلك تحرره المزدوج الثقافي والاجتماعي وهو القادم من خارج السرب.. كما ساعده في ذلك أيضا السياق الخاص للغاية لتلك الفترة من الحرب الباردة في وقت وجدت فيه السلطات الأمريكية نفسها تتحمل مسؤوليات على مستوى كوكب الأرض، وهي تواجه أعداء لا تعرف الكثير عنهم ، وهي تريد حشد الدوائر الأكاديمية لملء جهلها بالساحة الدولية.. ولقد نجح كل من بريجنسكي (الكاتولوكي البولندي) وسلفه كيسينجر (اليهودي الألماني) من مساعدة الإدارة الأمريكية في إضفاء الثوب الأكاديمي على السياسة الخارجية الأميركية في تلك الحقبة..
من بين العديد من الإستراتيجيين الذين أتوا من "كلية الحرب الباردة" ، تميز بريجنسكي بقدرة غير عادية على الإعتماد على مهاراته الأكاديمية لتحقيق الازدهار في مجالات السلطة الأخرى ، سواء على وسائل الإعلام أو الاجتماعية أو السياسة. وبهذا المعنى ، فقد استفاد لبريجنسكي من خبرة سلفه اللامع الذي يكبره بخمس سنوات، هنري كيسنجر ..
وسرعان ما اكتشف الرجلان بعضهما البعض في حشد من الخبراء ، وحافظا منذ ذلك الحين على علاقات ودية على الرغم من الروابط الحزبية المختلفة والرؤى المتباينة للطريقة التي يسير بها العالم: فقد كان الكبير حساسا اتجاه ثبات العلاقات الدولية، بينما كان الشاب ابريجنسكي مفتونًا بالتغيير.