بعد نهاية الحرب العالمية الثانية انقسم العالم اقتصاديا وصناعيا إلى أربعة مستويات على شكل تسلسل هرمي وظيفي، بحيث تقوم كل دولة بأعمال محددة في النسيج الاقتصادي والصناعي العالمي، ابتداء من قاعدة الهرم، وانتهاء برأسه، ويقبع في أسفل الهرم الدول التي تقوم بتوفيرالمادة الخام اللازمة للصناعة، وذلك اعتمادا على ما تملك من ثروات وموارد محلية طبيعية، ثم تليها الدول المصنع التي تلبي حاجيات العالم من من ختلف السلع، وتعتمد في ذلك على بنيتها التحتية الصناعية، واليد العاملة المدربة الرخيصة، ثم في أعلى الهرم، تأتي الدول الصناعية التي تتحكم في التكنولوجيا العالية، وتملك حق صناعة المعايير في كل المجالات، أما في قمة القمة فتأتي الإمبراطورية المالية الشيطانية القوة التي تتحكم في طباعة العملة العالمية روح هذا النظام الاقتصادي والصناعي الاستعبادي، والوحشي الذي في ظله تأسست كل من المجموعة الأوروبية للفحم والصلب (نواة الاتحاد الأوروبي )، وشركة ميفرما شركة اسنيم لاحقا ( نواة موريتانيا ) سنة 1952 في فترة كانت فيها أوروبا المدمرة لا تزال تشهد إعادة الإعمار، وبحاجة ماسة إلى الحديد والصلب أساس البناء والعمران.
صدفة النشأة هذه خلقت مساهمة مهمة في سلسلة الصناعة العالمية، وباتالي الظروف الملائمة لقيام، واستقلال بلادنا. لكن اليوم وفي ظل التغيرات الدراماتيكية التي شهدها العام، حيث أصبحت أصداء عوامل تغيير مجرى التاريخ تتردد في كل مكان معلنة عن تغيير جذري في مهام الدول ومواقعها، فقدت صدفة النشأة جاذبيتها، وسحرها لإعمار الصحراء، إذ لم يعد التحول في موريتانيا من الاعتماد على الصناعة الاستخراجية إلى الصناعة التحويلية مطلبا اقتصاديا واجتماعيا فحسب، بل ومطلبا وجوديا، وذلك للأسباب الثلاثة التالية:
عقدة النشأة
لم يعد يخفى على أحد أن المستعمرالسابق للغرب الافريقي ساهم في خلق دول وظيفية تقوم بأعمال محددة في النسيج الاقتصادي العالمي اعتمادا على ما تملك من ثروات وموارد محلية طبيعية، وذلك من أجل أن يضمن نوعا من الوصاية الاقتصادية عليها فهناك من يصدر الخشب الخام، ومن يصدرالقهوة الخام وكان دورنا تصدير الحديد الخام.عقدة النشأة هذه كانت ولا زالت تحد من استفادتنا من ثروتنا من المادة الأولية لثاني أكبر صناعة في العالم، والعمود الفقري لجميع الصناعات المدنية والعسكرية، كما جعلت اقتصادنا تحت رحمة تقلبات أسعار المادة الخام في سوق دولية لاترحم، وخير دليل على ذلك التذبذب الكبير الذي يطال مساهمة هذه المادة الخام في تكوين الناتج الداخلي الخام، وكذلك التغيرات الدراماتيكية في الميزان التجاري بين بلادنا وشريكها التجاري الأول أكبر وجهة لهذه المادة الاستراتيجية، حيث خلال 4 سنوات فقط انتقل الميزان التجاري بين البلدين من عجزعلى حساب بلادنا بحوالي 175 مليون دولارسنة 2018 إلى فائض لصالحها بحوالي 900 مليون سنة 2021، وذلك تماشيا مع انتقال متسوط سعر طن خام الحديد من 69 دولارا إلى 164 دولار، كما انتقلت مساهمة هذه المادة في تكوين الناتج الداخلي الخام من حوالي 4.4% سنة إلى أكثر من 15% . بل إن الخطر الحقيقي والأكبر لعقدة نشأة هذه يكمن في أنه كلما زاد إنتاج وتصدير المادة الخام كلما زادت الأرصدة الخارجية للبلد، وبالتالي زاد ارتهانه وتبعيته للخارج، وقد كشفت العقوبات المفروضة على روسيا، وقبلها الاستيلاء على أموال أفغانستان، والعراق، وليبيا أن مراكمة الأصول خارج البلد يمكنها أن تسلب في أي لحظة، وأنه كلما زادت وتضخمت كلما أصبح البلد رهينة مسلوب السيادة وربما الهوية (الحالة الخليجية) هذه المخاطر وغيرها تفرض علينا التفكير في المستقبل بعد أن تتدفق أموال الغازإلى صندوق الهيدروكربونات الوطني (FNRH) الذي هوعبارة عن حساب خارجي افتتح في بنك فرنسا بإسم الدولة الموريتانية.
التحول الطاقوي
أما السبب الثاني فيتعلق بالتحول الطاقوي، حيث بلادنا قاب قوسين أوأدنى من دخول عصر إنتاج الغاز الطبيعي، الذي لن يشكل مصدرا جيدا للطاقة الرخيصة التي يحتاجها تصنيع الصلب فحسب، بل سيكون عاملا حاسما في تصنيعه، إذ يعد الغاز الطبيعي المادة الأساسية بدل فحم الكوك في حالة تصنيع الصلب عن طريق الإختزال المباشر، وهو ما سيقلل من مخاطر الاعتماد على الخارج لتوفير المادة الأسياسية عامل الاختزال فحم الكوك، كما أن مصانع الاختزال المباشر أقل تلويثا للبيئة، وتقنيا أبسط، وهو ما يجعلها أكثر ملائمة لدولة مثل بلادنا. التحول الطاقوي المرتقب لن يحل مشكلة الكهرباء الرخيصة والنظيفة الكثيفة التي تحتاجها صناعة الصلب فقط بل قد يساهم في حل مشكلة توفير المياه، حيث يمكن أن يستخدم الغاز في محطات تحلية لمياه البحر، وهو ما قد يشكل فرصة لإحياء مشروع نقل مياه البحر إلى الشمال الموريتاني خاصة مع الحديث عن شراكات واعدة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يعززهو أيضا هذا الخيار، وهو ما سيقود في نهاية المطاف إلى خلق جوا ملائما لاستقطاب صناعة محلية خضراء، والتي يجب أن يكون على رأسها الحديد الأخضر، فالمنتجات الخضراء سيكون لها سوق كبير في المستقبل القريب مع زيادة الوعي بالعوامل البيئية، حيث أصبح التعامل مع التغيرات المناخية أمرا حتميا.
المنافسة الخاسرة
أما السسب الثالث فيتعلق بالوقوف على نقطة انعطاف تاريخية في السوق العالمي لخامات الحديد ألا، وهي فقدان الأربعة الكبار ومن يقف ورائهم السيطرة على تسعير المادة الخام لصالح الصين، حيث باتت المعالم الصينية للسوق العالمي لخامات الحديد واضحة كالشمس في كبد النهار خاصة بعد بدأ تنفيذها لاستراتيجتها الجديدة لتأمين مصادر المادة الخام، التي تتكون من خطة على مدى 15 عاما يتم تنفيذها على ثلاثة مراحل، حيث تستهدف المرة الأولى وفي أفق 2025 زيادة الإنتاج الداخلي من خام الحديد بحوالي 100 مليون طن، وزيادة الاعتماد على الخردة إلى حوالي 300 مليون طن، بالإضافة إلى زيادة 100 مليون طن من المناجم الخارجية التي تملك حقوق امتيازلاستغلالها. هذه الخطة في نهاية المطاف ستمكن الصين من الاستغناء عن حوالي 300 مليون طن من الخامات المستوردة، وستنقل الصراع والمنافسة من صراع بينها والأربعة الكبار إلى صراع بين المصدرين كلهم، وهو ما قد يخلق تحديا كبيرا لشركة اسنيم في ظل فشل محاولات خفض التكلفة وإنتاج خامات عالية الجودة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يخفى على أحد أن سباق التسلح بين روسيا وأمريكا قديما كان سببا في إحداث التحول الصناعي لدى كثير من دول في المعسكرين الغربي والشرقي، وسباق البنية التحتية بين أمريكا والصين المحتدم سيخلق فرصا لا تقدر بثمن للدول التي تملك صناعة جيدة للحديد والصلب.
إن التحول من الاعتماد على الصناعة الاستخراجية إلى الاعتماد على الصناعة التحويلية في مجال الحديد والصلب لم يعد مطلبا اقتصاديا للخروج من عقدة النشأة، وكسر معادلة مستقبنا مرهون بأسعار المادة الخام فحسب، بل ومطلبا ووجوديا، حيث يعتبر بطاقة عبورإلى عالم ما بعد كورونا، حيث قيمة موريتانيا الحقيقية تكمن في موقعها الجيواستراتيجي، الذي لن يتسنى لها استغلاله إلا بعد إنشاء بنية تحتية محلية وإقليمية جيدة وبتكلفة منافسة، والضامن لذلك التحول إلى التصنيع، والبداية من مكورات الحديد المرحلة الأخيرة قبل الصلب الأخضر.