هنا الركيز؛ حيث كل شيء يوحي بآثار حرب ضروس؛ هنا تيغرت كل الأشكال والأصوات التي قاومت التجويع والتهميش منذ ستة عقود، صوت الضحايا لم يعد مبحوحاً كما كان؛ فقد اعيته صروف الدهر وتكالبت عليه كل القوى المرئية وغيرها؛ فإنسان الركيز مثل شجره ومدره محتجز منذ نشأة الدولة في قيعان التخلف؛ لاجديد لديه سوى تطوير وسائل اخضاعه وتهميشه؛ فهو محاصر بين خيارات ثلاثة؛ إما الموت جوعاً أو عطشاً أو في رحلة بحث- مهلكة بطبعها- عن دفع مخاطر هذا الثنائي الحرج.
لقد اثبتت الإحصائيات أن أكثر نسبة فشل كلوي على مستوى الوطن مسجلة في تلك المقاطعة؛ بسبب تلوث المياه؛ رغم كون اركيز يقع على أكبر بحيرة جوفية في موريتانيا.
أما الأمراض الناجمة عن سوء التغذية فحدث ولاحرج؛ فكل الأراضي الصالحة للزراعة استولى عليها نافذون؛ هدفهم الوحيد أن يموت إنسان الركيز جوعاً وحقارة؛ كي لايشعر أحفاده أنهم ينتمون لجنس اسمه البشر..ولكي لايفكروا حتى في إمكانية التطور على الصورة التي رسمها "داروين"..
يروي السكان المحليون أنهم حُرموا أبسط مقومات الحياة في مقاطعتهم بمافي ذلك الأوكسجين؛ وحين حاولوا إبلاغ السلطات بمطالبهم المشروعة؛ تنكر لهم كل شيء؛ ليكتشفوا بعد إلحاح على الجهات المعنية أنهم يُراد لهم أن يموتوا على طريقة الباعوض؛ وربما تكون تلك ميتة لا يستحقونها في نظر ممثليهم في البرلمان وغيره.
قد لايدرك من يستهزئ بكرامة الإنسان الموريتاني أنه حين يفقد الأمل يتحول لقنبلة ذكية بإمكانها تدمير كل شيء في لحظات.
كان المراقبون يتصورون أن وضع الركيز بعد ثورته سيختلف تماما عن ما سابقها؛ فأعين السلطان قدلاتكون على دراية بتفاصيل مايعانيه هؤلاء السكان في مرحلة معلومة؛ لكن العكس هو ماحدث تماما؛ فقد تم تشريع العنف وقوننته تحت يافطة حماية سيادة الدولة ورموزها؛ واستغل النافذون كعادتهم تلك الأحداث لممارسة هواية أدمن أصحابها التنمر ونهب خيرات مقاطعة يموت أهلها جوعا في وضح النهار.
في الجانب الآخر من هذه المعاناة المزمنة يُحرم أصحاب المؤهلات العلمية العليا من شباب اركيز من الولوج لوظائف بعينها تمكنهم من العيش بكرامة؛ مثل ضباط الجيش والشرطة وأساتذة التعليم العلمي...وقد وصل الأمر بعد الأحداث الأخيرة حد التضييق على الشباب أصحاب العربات التي تجرها الحمير ؛ وهو العمل الوحيد المتاح في المقاطعة والذي تمارسه غالبية الشباب المُعطلين.
ليس غريباً في ظل وضع كهذا أن تُسند الأطر هذا الحيز من البلاد وظائف غير قابلة للتصنيف؛ أما معظم نساء المقاطعة المعيلات للأسر فقد أصبحن عاطلات عن العمل بعد الارتفاع الصاروخي لأسعار القمح والذرة؛ حيث لم يعد بوسعن توفير المادة الأولية "للعيش".
بين ثنائية الواقع المر ومحاولة اخفاء الحقيقة يحاول السياسيون دفع المخزن للمواجهة مع السكان المحليين؛ سبيلا لإخفاء معاناة قد يدفع الجميع ثمنها في الوقت بدل الضائع؛ بحكم أن موريتانيا كلها تعاني مما يمكننا تسميته بسياسة" "اتروكيز "التي يشكل الركيز نموذجاً لها، حيث أصبحت المعاناة على قارعة التهميش جزءاً من تطويع المواطنين للقبول بالأمر والواقع؛ لكن الحقيقة هي أن الأمر أشبه بالرقص على خريطة ألغام غير واضحة المعالم .
د.أمم ولد عبد الله