يحتدم النقاش هذه الأيام في موريتانيا، بسبب دراسةٍ أصدرها قبل أيامٍ، منتدى الخبراء الموريتانيين في المهجر، وهي دراسة أجراها المنتدى بين شهرَي آذار/ مارس، ونيسان/ أبريل الماضيَين، للوقوف على مخاطر تلوّث الشاي المستهلَك في موريتانيا.
شاي ملوّث؟
دقّت هذه الدراسة ناقوس الخطر حول ما يستهلكه الموريتانيون من الشاي، وهو المشروب الأول في موريتانيا، والذي يُعدّ الأحبّ إلى قلب الموريتانيين، ويعدّونه وفق طقوسٍ خاصّة في المجالس العائلية.
في حديثٍ للبروفسور محمد بابا ولد سعيد، عضوٍ المكتب التنفيذي لمنتدى الخبراء الموريتانيين في المهجر، قال لرصيف22: "تأتي هذه الدراسة في سياق مشكلةٍ طُرحت في دولة مالي المجاورة، والتي ظهر فيها أن هناك علامةً تجاريةً للشاي عُثر فيها على مواد ملوَّثة، يسمّونها ‘أفلاتوكسين’. وبما أننا نعرف أن عادات استهلاك الشاي متشابهة في مالي وموريتانيا، فقد قرّر منتدى الخبراء الموريتانيين في المهجر، أن يقوم بدراسة الوضع في موريتانيا، واخترنا البدء بالشاي، وهدفنا ليس الشاي فحسب، بل المواد الغذائية كلها؛ لكن نعرف أن الشاي لديه رمزية خاصّة عند الشعب الموريتاني، مع أنني لا أعرف سبب هذه الرمزية، فنحن لا نزرعه، لكنه انتشر بيننا، وأصبحنا لا نستغني عنه".
دقّت دراسة عن التلوّث في مجموعةٍ من أنواع الشاي، ناقوس الخطر حول ما يستهلكه الموريتانيون منه، وهو المشروب الأوّل في موريتانيا، والأحبّ إلى قلب الموريتانيين
وأشار إلى أن "أهم مخرجات الدراسة، التوصّل إلى نتيجةٍ أفادت بأن جميع العلامات التجارية للشاي في موريتانيا، ملوَّثة، إذ أخذنا 28 علامةً تجاريةً، واخترنا منها عشر علامات، ووجدناها ملوَّثةً بالكامل، وبما أن خمساً منها تم اختيارها بشكلٍ عشوائيٍّ، يمكن أن نعدّ، إحصائياً، أن كل أنوع الشاي ملوَّثة، وخاصةً بمبيدات الحشرات. لقد طلبنا من مختبرٍ علميٍّ أن يقوم بالدراسة عن طريق البحث عن آثارٍ عن المبيدات، والمواد المكافِحة للآفات كلها.
أي مبيدات الحشرات، ومبيدات النباتات الضارّة، وغيرها، وخلص المختبر إلى أن العشرة التي درسناها، فيها 26 مادةً ملوَّثة بالمجموع. لكن هناك ثلاثة مواد توجد في جميع أنواع الشاي، وهي مبيدات حشرات".
وأشار المتحدث إلى أن "الدراسة أعدّها مختبر فرنسي يُسمّى Phytocontrol فيتوكونترول، موجود في مدينة نيم جنوب البلاد، ومعتمَد من طرف هيئة كوفراك (منظمة تصادق على أهلية المختبرات)، في فرنسا. ويمتلك المختبر الشهادات المطلوبة كلها التي تخوّله ليكون مرجعاً، وتمرّ عبره علامات الشاي القادمة إلى أوروبا".
توصيات حول التعامل مع التسمّم التراكمي
قدّمت الدراسة مجموعةً من التوصيات إلى الجهات الحكومية الوصيّة، وذلك اعتماداً على ما قاله المختبر.
وقال ولد سعيد: "في ما يخصّ الجهات الحكومية المعنيّة، قدّمنا إليها توصيات، اعتماداً على ما قاله المختبر؛ أولها، أن يتمّ إيقاف استيراد الشاي، والثانية في حالة توقيف استيراده، قال المختبر إن الكمية الموجودة في السوق يمكن أن تُترَك للاستعمال لأنها ستنتهي بسرعة، وذلك بشرط توقيف استيراد الشاي، لأن خطر هذه المواد التي اكتُشفت ليس خطراً مباشراً، ولا آنيّاً، فهي ليست مواد سامّة تقتل عند الاستعمال فوراً، لكنها تسبّب تسمماً بالتراكم على طول الزمن، ونحن نستهلك الكثير من الشاي، إذ نشربه يومياً، ومراتٍ عديدة. إذاً، على طول الزمن سيحدث التسمم، والتوصية الثالثة هي أن تقوم الجهات المختصّة بربط استيراد الشاي من جديد، بالحصول على شهادة فحصٍ تُظهِر أنه خالٍ من أي عنصرٍ يتجاوز الحدود. وفي الانتظار، يكون ذلك على حساب المستورد، وهذا ليس غالياً، ولا يتطلّب وقتاً كثيراً".
وأكّد المتحدّث على أن "الفحص ليس باهظ السعر، وتكفي ثلاثة أيامٍ لتُرسَل نتائجه بالبريد الإلكتروني". وأضاف: "هذه هي التوصية المؤقتة. أما في المدى المتوسط، فنوصي بخلق هيئةٍ مستقلّةٍ، أو سلطة مثل سلطة التنظيم، يكون صاحبها في منأى عن العزل، ولديه مأمورية، وتكون مكلّفةً بمتابعة جودة المواد الغذائية المتداولة في السوق، سواء المستوردة منها، أو المحلّية. أما المواطنون، فقد أوصيناهم بأنه في انتظار أن تُتَّخَذ قرارات لمجابهة هذا الوضع، بإمكانهم الإقلاع عن استهلاك الشاي، ومن لم يستطع، فعليه غسله بالماء الساخن، ثم يُجفَّف من الماء، وهذا يخفف تركيز الشاي، ويحدّ من الخطر".
"التخيير بين التسمّم والإقلاع، غير منصف"
وأكّد ولد سعيد، على أنّ "دور المثقفين والرأي العام، يجب أن يكون مثل دور الرأي العام في الدول كلها. فالرأي العام سلطة يجب أن تُفعَّل، ويكون لها دور، وهذا الدور يجب أن تلعبه أيضاً منظّمات الدفاع عن المستهلك، وهي موجودة في موريتانيا. يبقى أنه يجب تقويتها ودعمها، وعلى المثقفين المشاركة في هذا، وألا يخافوا من القوى الأخرى التي ليس من صالحها أن تكون صحّة المواطن هي الأهم".
ونوّه المتحدث بالحراك والنقاش الحاصلين بسبب الدراسة، قائلاً: "أنا معجَب بهذا الحراك، وبهذا النقاش، ونرى أن هناك رأياً عامّاً فعّالاً، ونتمنّى أن تقوم السلطة بدورها، وتتفطّن إلى هذا الواقع، وتقوم بالإجراءات المناسبة، وهي ليست صعبةً، ولا مكلِفةً، ولا معقّدة".
وخلص إلى القول: "ليس من حقّ أحدٍ منع الموريتانيين من شرب الشاي، وليس من حقّه أن يخيّرهم بين الإقلاع عنه، أو التسمّم، وهذا دور الحكومة التي عليها أن تطمئن المواطنين طمأنةً فعليةً، وليس بمجرد الكلام، أو بالتعليقات، أو البيانات، بل بآليةٍ لمراقبة هذه المواد المستوردة، وحين سيعلم التجّار في الصين، أو في الهند، بأن هناك آليةً للرقابة، لن يصدّروا إلينا إلا ما هو صالح للاستخدام، ولن يشتري تجّارنا إلا ما هو سليم".
ردّ حكومي
وعلّقت وزارة التجارة والصناعة التقليدية والسياحة، وهي الوزارة المعنية بالأمر، في بيانٍ صادرٍ عنها، قائلةً إنها اطّلعت على المعلومات، و"قامت بجرد جميع أنواع الشاي المستهلَك محلياً، وانتقت عيّناتٍ لخمسين صنفاً تجارياً أُرسِلت إلى أحد أكثر المختبرات الأوروبية كفاءةً في مجال سلامة الأغذية، بعد التعاقد معه لدراستها، بهدف الإحاطة بالعناصر والمخاطر كلها التي قد ترتبط بهذه المادة الحساسة، كالمعادن الثقيلة، ومخلّفات المبيدات، والأصباغ، والتحقق من المصدر النباتي، وإجراء التحاليل الميكروبيولوجية". وأكّدت أنها ستُطلِع الرأي العام الوطني على نتائج هذه الدراسة الشاملة، فور استلامها".
وأشارت الوزارة إلى أنها لن تتهاون في تطبيق التوصيات الصادرة عن هذه الدراسة الأولى من نوعها في البلاد، ذلك أن الجهات الحكومية هي وحدها المخوَّلة رسمياً إصدار بياناتٍ بخصوص الصحّة العمومية، وهي المسؤولة عن ذلك".
وطلبت من الجميع: "التأنّي وعدم اتّباع كل ما يُنشَر، أو يُتداوَل، من أخبارٍ ومعلوماتٍ قد يُراد بها إرباك المستهلكين". ويبقى السؤال مطروحاً حول ماذا سيفعل المواطن الموريتاني؟ وكيف سيتعامل مع الحديث المقلِق حول مشروبه وطقوسه الجميلة، خاصّةً أنه طقس يعود إلى نحو قرنين من الزمن.
مشروب وطني
تختلف القصص حول بداية دخول "المشروب السحري"، إلى البلاد، وعن أسباب العلاقة الحميمية للموريتانيين معه. إلا أن الباحث سيدي أحمد ولد الأمير، ذكر نقلاً عن المؤرّخ المختار بن حامد، عن الباحث الفرنسي المهتمّ بالشأن الموريتاني، ألبير لريش، "أن أوّل حضورٍ للشاي في موريتانيا، كان على يد عبد المعطي السباعي، بين 1858 و1875، ودخل إليها عن طريق المغرب".
وكان للمشروب الجديد مناصرون ورافضون، مثل أيّ وافدٍ جديد، ليتحوّل مع الأيام إلى حكايةٍ موريتانيةٍ غائصة في الوجدان الشعبي، ومشروبٍ له طقوسه الخاصّة والمميزة.
ويرى الموريتانيون أنَّ الشاي لا يحلو ويبلغ سموّه وبهاءه وتأثيره في الروح، إلا في طقسِه الجماعي، وقد كرّسوا ذلك بقانون الجيمات الثلاثة: الجَماعة أوّلاً، أي جماعة الشاي، فهو مشروب تشاركي، ولا يطيب إلا بالجماعة، والجَّر ثانياً، أي التمهّل في إعداده وطول التحضير، فالشاي يتطلب التأنّي في التحضير، ثم الجمر ثالثاً، إذ يساعد الجمر بدوره في إطالة زمان جلسة الشاي، ويطبعها بطابعٍ من السكينة والهدوء، فالشاي يُصنَع على نار الجمر الهادئة، وجلسة الشاي لا يحبَّذ أن يُسدَل ستارها في عجالةٍ.