سنتابع مرة أخرى ما بدأناه سابقاً من أخبار البلد.
أعتقد أنه حدث تغيير وزاري بعد آخر مرة التقينا فيها، نعم، في هذه السنوات أعتقد أنه حدث الكثير من "التساقطات" الوزارية، لكن للأسف، عندما يتساقط الوزراء لا ينبت شيء، وعندما لا يتساقطون يكون الأمر أسوأ.
إذن، تساقط الوزراء بغزارة ولم يعد هناك موسم معين لذلك في البلد، كما أن "التساقطات" الوزارية أسوأ من الأمطار الحمضية وقد تكون ناجمة عن تضافر عوامل الاحتباس الحراري، والنينو، وثقوب الأوزون، و"تشيرنوبل" و الأعاصير والحرائق، ونسب المشاركة في الانتخابات المحلية.
إنني أنتظر ببالغ الخوف والهلع ذلك اليوم الذي أعين فيه وزيراً، إذ لن يكون أمامي من خيار سوى أن أبيع أثاث وزارتي وأصادر سيارات المصلحة من أجل الاستعمال الشخصي، وأن أعين أربعة من أقاربي، ثلاثا من قريباتي واثنين من أصدقائي، وواحدا بالكاد أعرفه، وأشتري ست بدلات من تصميم كرواتي، وأن أستقبل ثلاثة أو أربعة وجهاء معمرين يومياً، وأن أقضي في منصبي شهراً واحداً قبل أن تتم إقالتي على أثاث الدار التي كنت أسكنها وسيارة كورولا الوزارية، وابتسم في وجه الجميع ابتسامة انسان قطع رأسه للتو، ثم أعود إلى الحي الذي جئت منه أصلاً.
بعد الإقالة سأقضي أوقاتي في انتظار المكالمة الهاتفية من الرئاسة وأنا أنفض الغبار عن بذلاتي الكرواتية، وعندما يقطع الهاتف عن منزلي، سأقوم بالتجوال في سيارتي التي اختلستها من بين المحتالين في المرآب الحكومي، سأوزع التحيات يميناً ويساراً مدة الأسبوعين الأولين، وابتداء من الثالث سوف أبدأ في التوقف لمصافحة شخص أو شخصين وأسأل عن أخبار أحدهم سمعت أنه "غير صحيح".
بعد شهرين من إقالتي سأتجول في ردهات وممرات الوزارات والشركات العمومية، وابتسم للكل وأحيي الجميع يمينا وشمالاً، وأحكي بعض ذكريات أيام زمان "حيثُ كنت"، وأبحث عن الذين اسديت لهم خدمات "عندما كنت" كي أجبرهم واحداً واحداً على أن يردوا لي الجميل، لكن للأسف لم تمض أربعة أشهر على إقالتي حتى يكون بإمكان مدير، وحتى رئيس مصلحة، أن يلقي بيده على منكبي -كما يفعل مع زملائه- قائلاً: "أيوه، السيد الوزير، هل من جديد اليوم، أنت لم تأتي بالأمس" عندها سأفهم أن صفتي وزيراً لم تعد ذكرى يجب أن أحاول أن أتذكرها بعد الآن، لكن لا يهم، فنهاية الوزارة ليست نهاية العالم، ولو كانت الإقالة منها تؤدي إلى الموت لكانت هي السبب الأول للوفيات في موريتانيا أكثر بكثير من الحصبة والملاريا والسل الرئوي وأمراض أخرى سريعة العدوى.
نحن في موريتانيا نتكلم كثيراً حتى اننا لا نفعل إلا ذلك، نتكلم نتكلم وننسى أننا تكلمنا ثم نتكلم، ونتكلم لنعرف هل تكلمنا ثم نتكلم، والكلام عندنا هو نشاط طبيعي وصحي، حتى انه النشاط الصحي الوحيد، فهو رياضة للبدن والروح، وكما أن الموريتانيين يملكون ألسنة كبيرة في حجم حقائب ضخمة ومفتولة، وعلى الموريتاني أن لا يقول أبداً "لا أدري"، فذلك سيجعله منبوذا من طرف المجتمع وتصب عليه لعنات الجميع، ويكون محتقراً ويعيش على الهامش لأنه تجرأ على أن لا يعرف، أن لا يعرف ماذا؟
لا يهم أي شيء، فالمهم هو ان نتكلم، ليس أن تقول بل أن تتكلم فهنا هو المكان الأكثر ملاءمة لتصريف فعل تكلم في الحاضر. أنا أتكلم، أنت تتكلم، هو يتكلم، نحن نتكلم، أنتم تتكلمون، هم يتكلمون والجميع في آن واحد. وقد لا تلاحظون أنه لا أحد يستمع أو يسمع، وهو وضع ملائم تماماً للمتكلم الذي سيكون مطمئنا إلى أن كلامه لا يصل إلى الآذان الخبيثة. فالآذان الخبيثة هي التي تقتل الكلمات، والكلمة تعيشُ ما لم تلق أذنا تدفن فيها للأبد. إلا أنه للأسف هناك من الآذان ضعف عدد الأفواه، وفي انتظار أن نحل مشكلة الآذان كأن يتم اتهامها بالعمالة للخارج مثلاً، ومن ثم التنكيل بها،
أقدم هنا بعض النصائح إلى أولئك الذين مازالوا يصممون على قول "لا أدري" ستمكنهم من الكلام دون أن يسمعهم أحد، وهذه النصائح معجم يشمل المواضيع الشائعة (تكلم كليمتنا) مرتبة على الحروف الهجائية:
أ - الاقتصاد:
لا تقل: لا يوجد اقتصاد في موريتانيا فهناك فقط شخصان او ثلاثة يستفيدون من القروض التي تمنحها الدولة وبعض السيارات العابرة للصحراء، ودكاكين أو فواتير مزورة وكل ذلك ليس اقتصاداً.
قل: عندنا اقتصاد لا بأس به مقارنة مع الدول الإفريقية الأخرى، وما زلنا نسدد رواتب الموظفين.
- الإمبريالية:
لا تقل: لم يتغير شيء بصفة جوهرية منذ القرن 19م.
بل قل: الإمبريالية كلمة كبيرة وضحوا ما تعنون بها. فالكلام الكبير لا يقال لأنه يفرق الجماعات.
ب- البعثيين:
لا تقل: البلاد أصبحت خراباً بسبب (البعثيين)
بل قل: كان البعثيون يريدون تخريب البلد.
ج - الجرائد
لا تقل: الجرائد هي المرآة الحقيقية للمجتمع
قل: الجرائد مجرد هراء
- الجمهورية:
لا تقل: الجمهورية مشتقة من الجمهور، وعندنا هنا أسوأ تطبيق لها فمن الأجدر أن نسميها هنا الخصوصية المشتقة من الخصوص، فالأموال العمومية تحولت إلى الأموال الخصوصية، إلخ.
بل قل: نحن جمهورية ديمقراطية
ح _ الحوض
قل: إن سكان الحوض يصوتون للحزب الجمهوري
لا تقل: كان من أن الأجدر أن يعبروا عن رأيهم بحرية
د - الديمقراطية:
قل: بالمقارنة مع الدول الإفريقية والعربية الأخرى عندنا نظام ديمقراطي ناجح
لا تقل: نحن لا نعيش في الدول العربية والافريقية الأخرى، نحن نعيش هنا، وإذا كان لا بد من جعل الديمقراطية شيئا نسبياً، فلماذا لا نقارن أنفسنا بالدول التي عندها ديمقراطيات طبيعية كفرنسا والسويد وكندا، فصحة الإنسان لا تقارن بأمراض الأخرين.
ض - ضحايا القمع
لا تقل: لضحايا القمع الحق في التعبير عن شكاويهم
قل: "اكصر اعمارهم" هؤلاء الناس دائماً يشتكون.
ع- العربية:
لا تقل: موريتانيا دولة متعددة الأعراق
بل قل: موريتانيا عربية.
ف- فضيحة:
لا تقل: هذا ليس فضيحة، فكل الناس يفعل هذا
بل قل: كذب، لا يفعل كل الناس هكذا، بل القلة من أمثالكم
ك- كوكاكولا:
قل: أصبحت عندنا موزعات أوتوماتيكية للكوكاكولا في الأماكن العمومية وذلك علامة للتقدم.
لا تقل: كان من الأجدر إنشاء موزعات أوتوماتيكية للأرز أو الشاي، كما أن أصحاب الدكاكين موزعون أكثر أوتوماتيكية للكوكاكولا
غ - الغش:
لا تقل: إن المسؤولين في السلطة غشاشون جداً وذلك ما أوصلهم إلى مناصبهم الحالية، كما أن الانحراف السياسي أصبح الحجر الأساس لنظامنا الديمقراطي جداً حد البكاء.
م - المغرب العربي:
قل: إن بناء المغرب العربي مسألة ضرورية
لا تقل: نعم لكن سوف تمر مائة عام قبل تمكننا معرفة هل ذلك يمكن أم لا
- المعارضة:
قل: إنها غير موجودة
لا تقل: لم تعـطَ الفرصة لتبرهن على وجودها، فالانتخابات مزورة والمهرجانات محظورة، والإعلام الرسمي محظور عليها الوصول إليه، ورغم كل ذلك مازال الجميع يتحدث عنها، وذلك دليل كاف على أنها موجودة.
المصدر:
القلم، موريتانيد، ت: عبد الرحمن ولد عبد الله، العدد رقم 223 بتاريخ 20 ابريل، 2003.