نحن لا نخسرهم، إنما المواقف تغربلهم..
ليس من الغريب، إلا بالنسبة للغرباء على البلد طبعا، أو مواليد البارحة أن يكون نفس العدد من نواب حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الموقعين على عريضة مطالبة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بتغيير الدستور والترشح لمأمورية ثالثة، هو نفس العدد منهم الذي وقع اليوم على الاعتراض على عودته للساحة السياسية ولعب دور في هذا حزب، وأن تكون نفس السرعة التي تشاوروا وقعوا بها على تلك العريضة ( ثلاثة أيام فقط )، هي نفسها التي وقعوا بها اليوم على الاعتراض على تلك العودة ( ثلاثة أيام أيضا )!
وأن تكون عريضة النواب للمطالبة بتغيير الدستور بعد أسبوعين من اكتظاظ جدول حجز قاعات قصر المؤتمرات من طرف الولايات في تظاهرات أطرا ووجهاء ومنتخبون للمطالبة ببقاء ولد عبد العزيز في الحكم، وأن تكون عريضة النواب المطالبة بمأمورية ثالثة للرجل، لو لم يأمر هو نفسه بتوقيفها، كانت ستواصل السريان كالنار في الهشيم ليبدأ العمد فرادى ورابطات، والمجالس الجهوية، ثم الوجهاء والشخصيات، والأحزاب، وحلف أهل فلال، ومجموعة أهل فلان، ورئيس الرابطات الرعوية في الولاية الفلانية، وممثل الجالية الموريتانية في البلد الفلاني.. في إصدار بيانات في هذا الاتجاه وبنفس السرعة والتساوق والزخم الذي نشهده اليوم في الاتجاه المعاكس..!
وقد وجد نواب المأمورية الثالثة صعوبة بالغة، ولم يفلحوا في تبرير سرعة تحركهم للمطالبة بتلك المأمورية، وسرعة التوقف عن المطالبة بها عندما صدرت لهم الأوامر بذلك، وهي نفس الصعوبة التي يواجهونها اليوم في تبرير سرعة اعتراضهم على عودة ولد عبد العزيز للساحة السياسية ولعب دور في الحزب أمام الأرشيف المحفوظ لمطالباتهم له بتغيير الدستور والبقاء في الحكم.
أيضا فإن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية بالنسبة للكثيرين من خارجه ممن لم يكونوا متأكدين من موقف رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني منه ومكانته عنده، كان إلى وقت قريب حزب " خراب " وكان ضعيفا وأهله متناحرون، وكان كشكولا من القبائل والمتسلقين وأصحاب المصالح والامتيازات، وكان غائبا ولم يحرك ساكنا ولم يكن له أي دور في دعم ولا في حملة ولا في فوز رئيس الجمهورية وينبغي له حله فورا وإنشاء حزب جديد على أنقاضه، فإذا به، وبنفس السرعات التي تحدثنا عنها أعلاه، حزب رئيس الجمهورية الذي عمل بكل طاقاته وقواه لأنجاحه! بقي حزب الاتحاد كما هو أو تم حله وإنشاء حزب آخر على أنقاضة، فمم ـ يا ترى ـ سيتشكل هذا الحزب الجديد إلا مما كانت تتشكل منه نسخته " المنحلة " من قبائل ومتسلقين وأصحاب امتيازات قدماء وآخرين جدد، ما دام لن يتشكل من اليونانيين أو الكوبيين وإنما من الموريتانيين..؟!
لا يرتهننا الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بأي شيئ شخصي لا نقدي ولا عيني ولا حسي إلا ما قدمه لموريتانيا خلال عشر سنوات من حكمه، دافعنا عن نظامه وعن برنامجه كتابة طيلة هذه العشرية وسنواصل في ذلك ما بقيت تلك الإنجازات والمكتسبات، وما بُني وسيُبنى على رافعاتها اليوم غدا، ولم نكن نكتب لننتظر اتصالا ولا لنتلهف لمتابعة الفقرة الأخيرة من بيان مجلس الوزراء مساء كل خميس، ولم نحضر أو نحرص يوما على حجز المقاعد الأمامية في التظاهرات السياسية ( تكّطاعت ) للكاميرات.. ولم ندخل الصالونات يوما لقول ما لا قناعة لنا به.
وذلك الشيئ الذي لم نحظ به لدى الرئيس ولد عبد العزيز بالأمس، لا نريده اليوم أيضا عند الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، إلا ما سيقدمه هو الآخر لموريتانيا مواصلة لما حققته وكسبته وأحرزته ووصلت إليه ونجحت فيه خلال هذه العشرية، وهو كثير وقد عدده هو نفسه مرارا، وكان آخره بالأمس في خطاب ذكرى الاستقلال (..... تشييد دولتنا المعاصرة والارتقاء بها إلى المستوى الذي هي عليه اليوم ) والمستوى الذي هي عليه اليوم جانبه الكبير والمحسوس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا ودبلوماسيا، وبصماته الواضحة داخليا وخارجيا كان من مكتسبات عشرية الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولن يزيد من ذلك الإعتراف والتثمين ولن ينقص منه النكران والتبخيس.
وليست مواقفنا اليوم إلا انطلاقا من ذلك، وإن كان لنا من شعار في هذا الجانب فهو ذلك الشعار الذي عفى عليه زمن وقيم وأخلاق اليوم ( من كان يرزقنا من البشر فليقطع، ومن كان يعدنا برزق من عنده فليقلع ). فكوننا لم نكن معارضة تطمس التخندقات والمآرب والحظوظ النفسية على عيونها وتطغى على مواقفها، وتعتاش على التأزيم والأزمات والتوترات، وتتعطش للإنتقام من خصمها حتى ولو على أيدي غيرها لا على أيديها، وتجيد الصيد في تلك البرك والمستنقعات بحثا عن حظوة أو قصعة تذوب فى مرقها المبادئ بسرعة ذوبان السكر في الماء، لم نكن أيضا من أي من صنفي الأغلية أو الموالاة، لا تلك المؤلفة قلوبها إن أعطيت رضيت وإن مُنعت سخطت، ولا تلك التى كانت في الطابور متربصة فاغرة أفواهها انتظارا لمقابل مواقفها، فمر القطار الأول قبل أن تحظى بذلك المقابل، لتصطف على سكة القطار الجديد!
فلسنا موظفين نخاف على وظائف، ولا رجال أعمال نخاف على مال، ولا أصحاب ملفات نخشى فتحها، ولا أصحاب امتيازات نخاف عليها، ولا بائعي دعم بموقف أمس وآخر اليوم.. ولذلك نعتبر أنفسنا، ولا فخر، خير من يعبر عن موقفه مما يجري بتجرد وصدق منطلقين في ذلك وفقط من أن ما قُدم وما تحقق لموريتانيا قُدم وتحقق لنا ولغيرنا، لا يمنعنا من ذلك ولا يزحزحنا عنه أن ابتليت موريتانيا ب " نخبة " لا تعني لها موريتانيا سوى رقم على لوحة يانصيب، ويتساوى في ذلك سياسوها وأطرها وعامة عامتها!
ولا يختلف حال الموالاة هنا عن حال المعارضة التي ذابت مواقفها ومبادؤها السابقة من رفض حكم العسكر والإنقلابيين، والتحق من التحق بها بالمترشح محمد ولد الشيخ الغزواني وهو مرشح عسكري شريك في انقلابين، كخليفة لرئيس عسكري قائد لذينك الانقلابين دون شروط، ولبى الباقون دعوته لزيارته في قصره دون شورط كذلك، مكتفين من غنيمة السلطة والشروط والممهدات بالإياب بالتخلص من ولد عبد العزيز، حتى الحوار الذي طالما دعاهم له الأخير ورفضوه وعقدوا المهرجانات ونظموا المسيرات تنديدا وادعاءا لرفضه له، طرحوه على رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني فقال لهم إنه لا يرى حاجة له، فخرجوا من القصر ولا تعليق منهم على رفضه لذلك المطلب أحرى المظاهرات والمسيررات تنديدا برفضه له..!!
وخرست الأفواه عن الحديث عن البطالة رغم أن الوزير المعني بالتشغيل كرر نفس ما كان يقوله سابقوه عنها من أن سبب انتشارها هو عدم ملاءمة الشهادات مع متطلبات سوق العمل وكانوا يكذبون ذلك، وخرست عن الحديث عن أرتفاع الأسعار التي لا تزال هي نفسها، وخرست عنما كانت تسميه الزبونية وعن التعيينات، وخرست عن كل شيء، فقط لأن " زعيم المعارضة "، أو زعيم معارضة الزعيم مسعود، جلس في المناسبات عن يمين الرئيس، وبعض الزعماء أكلوا المشوي في شنقيط، وكلهم استقبلوا في القصر من طرف الرئيس، وقد ظل ولد عبد العزيز يقول إن بابه مفتوح لكل من يرغب منهم في لقائه لكنهم كانوا يمتنعون، والإثنان منهما اللذان التقياه وهما بيرام ولد أعبيدي وجميل منصور طلبا أن يكون ذلك اللقاء سريا لأن رفاقهما في المعارضة سيعتبرونه جريمة!
رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني رئيس منتخب، ويمتلك كامل الأهلية والصلاحيات لقيادة البلاد وتنفيذ برنامجه، ومن وصفه باليد الأمينة يوم تنصيبه معروف وليس بالتأكيد واحدا ممن يحاولون اليوم إقناعه بإنه أُمِنَ على البلد من غير أمين عليه.. وقد صرح قبل أيام لصحيفة سنغالية إن وصوله للسلطة لم يكن ثورة ولا كنسا للطاولة لأنه يدرك أن هناك " ثوارا وكنَّاسون "! طمعا في إخلاء الساحة لهم وحدهم، كما أن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية ليس حزبا إديولوجيا لكي تكون له مرجعية، وليس من الصدفة أن يكون المُدخل لهذا المصطلح الجديد والغريب على القاموس السياسي الموريتاني حركي إديولوجي ساقه القدر ل " الإنتماء " لحزب ليبرالي جامع لكل الموريتانيين الذين ما وجدوا ولن يجدوا ما هو أخطر عليهم وعلى وحدتهم وانسجامهم من الحركات والمؤدلجين، ولا داعي لمد الأصبع في هذا الحركي الإديولوجي لأنه معروف..
ومعروف كذلك أن لكل من الحركات الإديولوجية مرجعيتها " المقدسمة " التي لا يُغيبها غير الموت لتُوَّرث الكرسي أو العباءة لمرجعية جديدة. وبالتالي فلم يسع الرئيس ولد عبد العزيز لرئاسة حزب الاتحاد ليكون مرجعية له، وإنما لضمان بقاء حزب أسسه وحقق به للبلد ما حققه، وأوصل بدعمه رفيقه للسلطة، وإذا لم تكن رئاسته له تعزيزا وضمانا واستمرارا لذلك الدعم فبالتأكيد لن يكون الحال هو العكس، وإلا فلماذا وجه الحزب أصلا لذلك الدعم يوم إفصاحه عن ترشيح المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني، وطيلة حملته الرئاسية، ويوم تنصيبه، وبالأمس بعد عودته وأجتماعه بلجنة الحزب! أيضا ولد عبد العزيز كان هو من وقع على دسترة تجريم الانقلابات العسكرية وعدم إفلات مرتكبيها بالتقادم، بالضبط كما كان هو من أشرف على تحديد عدد المأموريات الرئاسية، حتى ولو كان الوصول إلى هذه الأهداف تطلَّب منه قيادة انقلابين.
أيضا فإن قول بعضهم اليوم إنه لا يليق بمن كان رئيسا لدولة بكاملها أن يصبح رئيسا لحزب هو باطل إريد به باطل، وقد أخطأ هؤلاء إذا كانوا اعتقدوا أنهم بذلك أكتشفوا الطريقة " الأخلاقية " التي يتملصون بها من ولد عبد العزيز بعد عشر سنوات من التسبيح بحمده، وأنهم بهذه الصيغة من صيغ التملص قد حفظوا ماء وجوههم الناضب أصلا! فمليئة هي التجارب الديمقراطية بالقادة من رؤساء ورؤساء حكومات الذين خرجوا السلطة فترأسوا أحزابا ومارسوا السياسة وخاضوا الانتخابات في مجتمعات متطورة وحديثة فما بالك بمجتمعنا!
وعلى أية حال ومهما يكن ما يجري الحديث عنه من توتر بين الرفيقين رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني والرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، ومهما كانت حقيقته أو طبيعته أو أسبابه أو مآلاته فلن نخوض فيه لأن لا مصلحة لنا فيه، ولا مصلحة للبلد فيه كذلك عكس ما يعتقده المستثمرون في التوترات، إلا أن ما يجري، ومهما يكن، فإنه ليس سوى مرحلة من مراحل سحب الماء ونهش اللحم من وجوه السياسيين الموريتانين معارضة وموالاة، أو لنقل نهش وسحب آخر " كدادة لحم " وآخر قطرة ماء مما تركته المراحل في تاريخ البلاد بتبدلاتها وتغيراتها في تلك الوجوه من ماء ولحم!
ويكفينا أن نُذكر هنا أنه ومن بين آلاف السياسيين الموريتانيين مخضرمين ومعاصرين ومن كل الاتجاهات، فإن السياسي الموريتاني الوحيد الذي إذا قيل اليوم من منكم بقى وفيا لرئيس خرج من السلطة وظل يتجرأ على ذكر اسمه أو ذكره بخير فليرفع أصبعه، فإن الزعيم السياسي بيجدل ولد هميد هو وحده من يستطيع أن يرفع أصبعه ويقول أنا.. فعلها يوم الإطاحة بولد الطايع حين أيد البعض ولاذ الآخرون بالصمت، ولا يزال إلى اليوم يتحدث في كل المناسبات عما يعتقده فيه من خير، وفعلها يوم الإطاحة بولد الشيخ عبد الله، ودعك من وقوف حزبي تواصل وقوى التقدم ضد الإطاحة به فقد التحقا به أسبوعا قبل ذلك مقابل وزير لكل منهما في حكومته، وكانا هما من لقباه بمرشح العسكر خلال شوطي حملته، وبالرئيس الضعيف بعد فوزه، بينما دعمه بيجل يوم إعلان ترشحه وخاض معه حملته. صحيح أن بيجل تحالف بعد ذلك مع الرئيس ولد عبد العزيز، لكن ذلك كان بعد سنوات من معارضته، وعندما تقارب معه كان ذلك على إثر وبمقتضى حوار وتنازلات متبادلة لصالح موريتانيا ووحدتها وديمقراطيتها، وها هو بيجل يفعلها اليوم حتى الآن على الأقل. وللداعية الشيخ محمد ولد سيدي يحي أقوال مأثورة في هذا المقام حيث يقول دائما ( هي ألا موريتَنِ ) ويقول أيضا
(خالكّين الرجاله ؤخالكّين أذكور )!
محمدو ولد البخاري عابدين