تابعت خطاب رئيس الجمهورية والاحتفالات المخلدة للذكرى التاسعة والخمسين لعيد الاستقلال الوطني، وخرجت بجملة من الملاحظات السريعة لعل من أهمها:
خطابٌ فريد من نوعه
لأول مرة في موريتانيا يلقي رئيس موريتاني بمناسبة عيد الاستقلال خطابا موجها إلى الشعب بلغة عربية فصيحة وأنيقة : كتابة ونطقا. قد لا يرى البعض ـ ولأسباب معلومة ومفهومة ـ أي أهمية لذلك، ولكن كل أولئك الذين يطمحون إلى أن تُكمل بلادنا استقلالها السياسي باستقلال ثقافي لا شك بأنهم سيستبشرون خيرا بهذا الخطاب الفصيح كتابة ونطقا. كما أن كل أولئك الذين لا يميزون بين مواد دستورنا، ويسعون لفرض احترام جميع مواده، وبما في ذلك المادة السادسة، سيستبشرون خيرا بهذا الخطاب الذي يغلب الظن أن رئيس الجمهورية هو من كتبه، ثم قرأه من بعد ذلك بلسان عربي فصيح.
إن أهمية الاستقلال الثقافي كانت بارزة في خطاب رئيس الجمهورية، وذلك عندما قال بالحرف الواحد " إن للاستقلال معان كثيرة، وسياقات متعددة: فهو سياسي بالموقف والقرار، وثقافي بحفظ الهوية واللسان، واقتصادي بالتطوير والإنماء".
كما أن هذه هي أول مرة سيشعر فيها المواطن الموريتاني المعارض بأنه معني بخطاب رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الاستقلال، وبأنه معني بالاحتفالات المخلدة لذكرى عيد الاستقلال. لقد قال الرئيس في خطابه بأنه مقتنع بإمكانية أن تلعب الموالاة والمعارضة دورها كاملا في جو من الثقة المتبادلة. جو الثقة هذا هو الذي يُحاول الرئيس أن يخلقه من خلال التشاور مع المعارضين، ومن خلال دعوتهم للمشاركة في الاحتفالات المخلدة لعيد الاستقلال.
ثم إن هذه هي أول مرة تصل فيها إلى المواطن الموريتاني ـ وأينما كان ـ رسالة تهنئة من رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الاستقلال. لقد وُفِّق رئيس الجمهورية عندما استخدم الرسائل النصية المرسلة عبر الهواتف لتقديم التهانئ للمواطنين أينما كانوا.
خلاصة القول فيما يخص هذه الفقرة هو أننا نعيش بداية عهد جديد يطبعه التصالح والتهدئة، ونرجو له بالإضافة إلى جو التصالح والتهدئة أن يكون عهدا يجسد المعنى الاقتصادي للاستقلال، والمتمثل حسب رئيس الجمهورية في التطوير والإنماء.
لم يبق إلا أن يُوقف التصعيد ضد طلاب الجامعة، وتلقى مذكرات الاعتقال في حق رجال الأعمال وغيرهم، وحينها سنشعر جميعا بأننا نعيش بالفعل لحظة تصالح استثنائية انتظرناها طويلا.
عن شغور مقعد الرئيس السابق
كما قلتُ سابقا فإن الرئيس السابق قد ارتكب خطأ كبيرا باجتماعه بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وبإصداره لبيان مستفز، ولا شك أنه بذلك قد أوقع نفسه في مأزق حقيقي من الصعب عليه أن يخرج منه دون تكبد خسائر جسيمة. لقد وجد الرئيس السابق نفسه أمام واحد من خيارين أحلاهما مرُّ، فإما أن يحضر للاحتفالات ويجلس بين الرئيس الأسبق سيدي ولد الشيخ عبد الله ورمز المعارضة رئيس التكتل أحمد داداه، وفي ذلك ما فيه مما أنا لستُ بحاجة إلى قوله. وإما أن يغيب في يوم الاستقلال عن المدينة التي ولد بها حسب وثائقه الرسمية، والتي خطط منذ عام لأن يُقام فيها الاحتفال، فيظهر بذلك مستوى خلافه مع "صديقه السابق" الرئيس الحالي للجمهورية، ولاشك أن إظهار ذلك الخلاف سيجعل الرئيس السابق يحارب وحيدا، وبظهر مكشوف للمعارضة والموالاة على حد سواء.
المعارضة وإعادة توجيه البوصلة
لقد ارتكبت المعارضة خطأ كبيرا بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية، وذلك بتركيزها على عدم الاعتراف بفوز المرشح غزواني، وبتحميله لما تعتقد بأنه قد حصل من عمليات التزوير، مع أن الرئيس السابق هو الذي كان يجب أن يتم تحميله أي تزوير يمكن أن يكون قد حصل في تلك الانتخابات. بعد ذلك بفترة قليلة بدأت المعارضة تعيد حساباتها وتغير من اتجاه بوصلتها، وأخذت تركز في خطاباتها وفي أنشطتها على انتقاد الرئيس السابق والمطالبة بمحاسبته، وتعمق لديها هذا الاتجاه بعد عودة الرئيس السابق، وبعد محاولته الانقلابية الفاشلة للإستلاء على حزب الاتحاد من أجل الجمهورية.
لقد وجهت المعارضة بوصلتها في الاتجاه الصحيح، وبدأت بعض أحزابها تحضر لمسيرة تطالب بالتحقيق في العشرية، وتم تحديد يوم 7 ديسمبر لتلك المسيرة مع أنه كان من الأفضل أن يتم تنظيمها في اليوم العالمي لمحاربة الفساد (9 ديسمبر).
إن دعوة قادة المعارضة للمشاركة في الاحتفالات المخلدة للذكرى التاسعة والخمسين ستساهم ـ وبلا شك ـ في إعادة توجيه البوصلة وبما يخدم تعزيز الديمقراطية واستعادة الأموال المنهوبة خلال العشرية.
رب ضارة نافعة
منذ تنصيب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وأنا على قناعة تامة بأنه يتحكم في الأمور، ولكني كنتُ أجد صعوبة كبيرة في إقناع الآخرين بذلك.
مشكلة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الحقيقية هي أنه لم يكن يرى بأهمية إقناع المواطنين بأنه هو من يتحكم فعلا في الأمور، وقد ترك الإشاعات في هذا المجال تأخذ مداها إلى أن وصل تأثيرها إلى كبار الموظفين والساسة والإعلاميين.
إن الحقيقة في السياسة والإعلام ليست هي تلك الحقيقة المجردة، بل إنها قد تكون عبارة عن "كذبة" أو "إشاعة"، ولكنها كذبة أو إشاعة ترسخت في أذهان الناس إلى أن أصبحت بالنسبة لهم حقيقة لا يمكن التشكيك فيها.
ما حدث منذ عودة الرئيس السابق إلى أرض الوطن يمكن وضعه في خانة و"رب ضارة نافعة"، فلو لم يحدث ما حدث لظلت الحقيقة الراسخة في أذهان العامة والنخب ـ وعلى حد سواء ـ هي أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لا يسيطر على الوضع ولا يتحكم في الأمور.
الأخطر في الأمر هو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لم يكن يرى أهمية لنفي تلك الشائعات عمليا، وكان سيترك تلك الشائعات تتناسل وتترسخ حتى تصبح في أذهان المواطنين " حقيقة مطلقة" لا يمكن التشكيك فيها.
ما جرى في الأيام الماضية كان في مصلحة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لأنه قد أجبره على أن يتصرف بطريقة تؤكد للجميع نخبا وعامة بأنه هو من يتحكم في الأمور. ولعلَّ ترؤس الرئيس لحفل رفع العلم في أكجوجت وخروجه من السيارة لتحية الجماهير رغم موجة الشائعات التي أطلقت حينها ليؤكد بأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على ثقة تامة بأن الوضع تحت السيطرة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل