من الصعب جدا تحديد السبب أو الأسباب التي جعلت الرئيس السابق يقرر الاجتماع بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وأن يقول في الاجتماع ما قيل بأنه قد قاله، وأن يختُم ذلك الاجتماع ببيان من ثماني فقرات يتم إصداره في وقت متأخر الليل، يُشيد بإنجازات العشرية، ويتحدث عن توجيهات "الرئيس المؤسس"، ولا يذكر رئيس الجمهورية إلا في فقرة واحدة من فقراته الثمانية (الفقرة السادسة)!
من الصعب جدا تحديد السبب أو الأسباب التي جعلت الرئيس السابق يُقْدِم على ذلك الاجتماع المستفز، فهل السبب في الإقدام على ذلك الاجتماع المستفز هو أن الرئيس السابق قد استشعر بأن بساط السلطة والنفوذ قد بدأ يسحب من تحت قدميه بهدوء وكياسة؟ أم أن السبب يعود إلى اتساع المطالبة بفتح تحقيق في سنوات العشرية ودخول أحزاب عريقة على الخط؟ أم أنه يعود إلى استياء وغضب الرئيس السابق من انفتاح رئيس الجمهورية على المعارضة؟ أم أنه عائد إلى التشكيك عمليا في واحد من أهم عناوين العشرية: الإنجازات الصحية؟ أم أن السبب لا علاقة له بكل ذلك، وإنما هو مرتبط بالجوانب السلوكية والنفسية في شخصية الرئيس السابق، فربما يكون عشق الرئيس السابق للصدام والأزمات هو الذي جعله يسعى من وراء ذلك الاجتماع إلى تفجير أزمة جديدة داخل الحزب الحاكم وفي صفوف الأغلبية الداعمة، وربما تكون روح المخاطرة التي عُرِف بها الرئيس السابق خلال عشريته هي التي دفعته إلى الإقدام على هذه الاجتماع المتهور وغير المحسوب سياسيا.
بالمنطق التحليلي البحت، فإنه يمكننا أن ندفع بأي سبب من الأسباب المذكورة أعلاه لتفسير ما حدث، كما يمكننا ـ وبنفس المنطق التحليلي ـ أن نقول بأن ما حدث لا يرجع لسبب واحد من تلك الأسباب، وإنما يرجع لتضافر بعض أو كل تلك الأسباب التي تم ذكرها آنفا. وبغض النظر عن السبب الحقيقي أو الأسباب التي جعلت الرئيس السابق يُقدم على ذلك الاجتماع القاتل، فإن ما يمكن الجزم به هنا هو أن الرئيس السابق بتصرفه ذاك قد نصَّب نفسه هدفا مكشوفا لنيران الأصدقاء من قبل نيران الخصوم.
كان على الرئيس السابق أن يبتعد عن واجهة الأحداث وعن دائرة الضوء إذا ما كانت تهمه مصلحته الخاصة، وكان عليه أن لا يهز الثقة بصديقه رئيس الجمهورية الذي كان ـ وما زال ـ يوفر له الحماية. لقد ارتكب الرئيس السابق خطأ جسيما عندما قرر أن يلقي بنفسه في قلب دائرة الضوء من خلال الدعوة إلى ذلك الاجتماع القاتل، وارتكب خطأ أكبر عندما تصرف بطريقة غير ودية مع صديقه رئيس الجمهورية.
أقل ما يمكن أن يُقال عن ذلك الاجتماع القاتل، وعن النقاش الذي دار على هامشه، وعن البيان الصادر عن الاجتماع، أقل ما يمكن أن يُقال عن كل ذلك، بأنه كان عبارة عن محاولة فاشلة لانقلاب سياسي على رئيس الجمهورية، ومن شأن تلك المحاولة الفاشلة ـ ومن منطلق تحليلي بحت ـ أن ترفع الحرج عن رئيس الجمهورية فيما يخص طبيعة تعامله مع صديقه الرئيس السابق، بل أكثر من ذلك فإنها ستمنحه فرصا ثمينة، وللتذكير فأنا لا زلتُ أتحدث بمنطق تحليلي بحت. أن يستغل رئيس الجمهورية تلك الفرص أو لا يستغلها فتلك مسألة أخرى، المهم أن تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة قد فتحت فرصا كثيرة لاتخاذ قرارات ستزيد من شعبية رئيس الجمهورية إن هو اتخذها، ومن تلك الفرص المتاحة:
1 ـ لم يستفد الرئيس محمد ولد الشيخ غزواني في بداية حكمه مما استفاد منه الرؤساء السابقون، فمن المعروف بأن كل رئيس جديد كان يكفيه في فترته الأولى أن ينتقد النظام السابق أو "النظام البائد" ليلتف حوله المواطنون. هذه الفرصة لم تُتح للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لأسباب معروفة، ولكن الآن، وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة أصبحت هذه الفرصة متاحة له.
2 ـ لم يستفد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في بداية حكمه من رفع شعار محاربة الفساد، وهو الشعار الأكثر جذبا و استقطابا للموريتانيين. الآن يمكن للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يرفع هذا الشعار بجدية، ويمكنه أن يتخذ قرارا بتشكيل محكمة العدل السامية التي كان قد ألغاها الرئيس السابق، وعطلها من قبله الرئيس الأسبق.
3 ـ لم يستفد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في بداية حكمه من غلق ملفات فتحها الرئيس السابق لأسباب شخصية. الآن يمكن للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يغلق ملف رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، وكل الملفات المشابهة، كما يمكنه أن يفتح مركز تكوين العلماء وكل الجمعيات المغلقة.
4 ـ لم يستفد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في بداية حكمه من أجواء التهدئة مع الطلاب. الآن يمكن للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يستفيد من أجواء التهدئة مع الطلاب إن هو أبعد وزير التعليم العالي "الناطق باسم الرئيس السابق".
5 ـ لم يستفد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في بداية حكمه من أي دعم سياسي منظم وفعَّال. الآن يمكن للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يشكل واجهته السياسية بعيدا عن لجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وهي اللجنة التي أثبتت بأنها فاشلة وغير قادرة حتى على تسيير مبادرة من مائة شخص.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل