ساهمت الاكتشافات المتتالية للنفط والغاز، التي بدأت وتيرتها تتصاعد في موريتانيا منذ الإعلان عن حقل شنقيط النفطي قبل عشرين عاما في فتح شهية شركات الطاقة الكبيرة العالمية خاصة الغربية منها، كما رفعت من طموحات وأحلام الشعب الموريتاني في تحقيق التخلص من براثن الفقر والتخلف لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد صدمة إعلان إغلاق حقل شنقيط دون تحسن الأوضاع الاقتصادية، لم يلبث الشعب الموريتاني أن تفاءل بالتطورات الإيجابية في حقل آحمييم للغاز حتى تلقى صفعة جديدة بتأخيراستغلاله تراجعت معها الآمال، وقد يكون ما ظهر حتى الآن من تأثيرات تفشي الوباء على الغاز الموريتاني ليس سوى قمة جبل الجليد، الذي يخفي وراءه ﻤﺘﻐﻴﺭﺍﺕ ﻭﻋﻭﺍﻤل ﺠﺩﻴﺩة باتت تلقي بظلالها على مستقبل حقل الغاز المشترك وغيره، ولعل من أهمها ما يلي:
أولا: منافسة دولية شرسة
عالم ما بعد كورونا يشهد اشتعال منافسة شرسة بين دول إنتاج الغاز المسال الكبيرة، فقد أعلنت قطر عن استثمارات بحوالي 28 مليار دولارمن أجل زيادة إنتاجها إلى 126 مليون طن في أفق 2027، كما وقعت اتفاقيات بقيمة 19 مليار دولار لشراء 100 ناقلة للغازالمسال، وهو ما يعكس نيتها في الحفاظ على موقعها كأبر مصدر ومهيمن على السوق. روسيا بدورها أعلنت عن خطة للاستحواذ على حوالي 20% من السوق العالمي للغاز المسال في أفق 2035 عن طريق إنتاج 140 مليون طن، وتعول كثيراعلى مشاريعها في القطب الشمالي، التي تتمتع بتنافسة عالية جدا، أما أمريكا التي تشهد ثورة في الغاز الصخري الذي تشيرجل التوقعات إلى أن يكون رائدا في الأسواق خلال السنوات القليلة القادمة، فقد تبنت خطة بزيادة صادراتها من الغاز المسال إلى 80 مليون طن في أفق 2026، حتى إفريقيا الغائبة عن المشهد في الوقت الراهن من المتوقع أن ينمو حجم صادرتها من الغاز المسال بحوالي 193% ليصل إلى حوالي 126 مليون طن في أفق 2040، وذلك حسب توقعات شركة شل (Shell). ارتفاع الإمدادات عالميا المتوقع أعلاه يعكسه إجمالي حجمالقدرة الإنتاجية التسييلية للمشاريع التي وصلت إلى مرحلة ما قبل القرار النهائي للاستثمار (FID) البالغة حوالي 900 مليون طن.
ثانيا: إيرادات متناقصة
تشيرتقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن إجمالي الإيرادات المتوقعة من مشروع أحمييم للغازتبلغ حوالي 80 مليار دولار حصة موريتانيا منها 14 مليار دولار على مدى مراحله الثلاثة، ولمدة 30 عاما، وعند متوسط سعر برميل النفط 60 دولارا، وقد ترتفع إلى 25 مليار دولار في حالة وصول متوسط سعر برميل النفط إلى 90 دولارا لكن اليوم المشروع قد يواجه تراجع في الإيرادات المتوقعة أعلاه نتيجة لعدة عوامل على رأسها حرب الأسعار التي تقودها قطر دفاعا عن مكانتها وأسواقها، مما سيؤدي إلى زيادة في المعروض يضغط على الأسعار، هذا بالإضافة إلى زيادة تكاليف تطوير المرحلة الأولى، حيث كان الحديث في بداية المشروع عن أن تكاليف المرحلة تصل إلى 3.6 مليار دولار، أما اليوم فقد بدأت التقارير تتحدث عن تكلفة تصل إلى 4.8 مليار دولار، ومؤخرا حذرت شركة كوزموس إنيرجي من أن تكاليف المرحلة الأولى من ا لمشروع قد تكون أعلى بنسبة 15٪ مما كان متوقعا، وربما هذا السبب وراء حديث Africa Energy Intelligence عن أن فرصة تحقيق أرباح من المرحلة الأولى للمشروع تكاد تكون معدومة، أما العامل الثالث فهو التأخير الحاصل في اتخاذ قرار الاستثمار النهائي للمرحة الثانية، وتعليق المرحلة الثالثة من المشروع، وذلك حسب التقرير العالمي للغاز الطبيعي المسال 2021 الصادر عن الاتحاد الدولي للغاز، مما يعني أن حجم الإنتاج لن يصل إلى 10 ملايين طن على الأقل في أفق 2027 كما كان مخططا له، وفي اعتقادي هناك عامل رابع قد يساهم مستقبلا في زيادة التكاليف، وبالتالي نقص الإيرادات، ألا وهو خيار المنصات العائمة التي من الواضح أنها تقنية جديدة غير مجربة كثيرا، مما يزيد من المشاكل الفنية أثناء المرحلة التجريبية تشغيلية، وما بعدها، ولنا في محنة أول وأكبر منصة عائمة في العالم (Prelude FLNG) خير مثال، حيث دخلت المرحلة التشغيلية التجريبية ديسمبر 2018، ومع ذلك تأخر موعد تسليم أول شحنة إلى يونيو 2019، واشتغلت 8 أشهر فقط لتتوقف عن العمل لمدة 11 شهرا بسبب خلل في التيار الكهربائي، مما زاد من تكاليفها الثقيلة أصلا .
ثالثا: محتوى محلي شبه معدوم
من الملاحظ أن المحتوى المحلي، الذي يعني ببساطة إجمالي القيمة التي يضيفها أي مشروع استخراجللاقتصاد الوطني من خلال العناصر المحلية من عمالة، والسلع، والخدمات ونحوها شبه معدوم على الأقل خلال المرحلة الجارية من المشروع المشترك، وذلك نظرا لخيار المنصات العائمة، حيث جاري إنشاء ثلاثة مكونات من أصل أربعة للمشروع خارج البلدين موريتانيا والسنغال، فحاليا جاري تصنيع المنصة العائمة للتخزين والتفريغ (FPSO) في الصين بعد تصميمها في فرنسا، وجاري العمل على تحويل سفينة نقل غاز طبيعي مسال تقليدية عمرها أكثر من 40 سنة إلى المنصة العائمة للتسييل (FLNG) في سنغافورة، وكذلك تمتصنيع نظام خطوط التدفق والإنتاج في إندونيسيا، وبريطانيا، هذه المشاريع خلقت أكثر من 2800 فرصة عمل في الصين، وحوالي 2000 فرصة عمل في سنغافورة ليس من ضمنها فرصة عمل واحدة لموريتانياأوالسنغال، مما يعني أن خيار المنصات العائمة هو خيار صفر فرصة عمل، وصفر استخدام موارد محلية للبلدين على الأقل في هذه المرحلة، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن هذا الخيار قد يكون أتخذ لأسباب أمنية وسياسية أكثر مما هي أسباب اقتصادية وفنية، أما حاجز الخرسانة المكونة الوحيدة الجارى إنشاؤها، والتي كان البلدين يعولان عليها في خلق فرص عمل و استغلال موارد محلية، فقد ولدت خيبة أمل بعد سيطرة فرنسية خالصة على كل ما يتعلق بها، وفي الآونة الأخيرة باتت أصوات الصياديين التقليديين تتعالى من تأثيرات المشروع على نشاطهم، الذي يعد عمود الاقتصاد للقرى بل وحتى بعض المدن الشاطئية في البلدين.
رابعا: شراكة مهددة
لم يعد سرا أن الحقل المشرك في واقعه الحالي يقع بين سندان توجيه بوصلة شركة بي بي نحو الطاقة المتجددة الخضراء، ومطرقة تداعيات فيروس كورونا، التي أدت إلى تكبد شركة بي بي خسارة ثقيلة خلال 2020 قدرت بحوالي 5.6 مليار دولار، والشركة اليوم ماضية في تنفيذ خطتها للإنسحاب التدريجي من قطاع الطاقة الأحفورية في إفريقيا، فقد قررت التخلي عن جميع المناطق قيد الاستكشاف في كل من ساو تومي وبرينسيبي، وكوت ديفوار، وناميبيا ، وغامبيا، ومدغشقر، ولكن ثمة ما يجذبنا أكثر إلى ما يدور خلف الكواليس، حيث تشير بعض التقارير إلى أن الشركة تسعى إلى بيع حوالي 30% من حصتها في الحقل،مما يطرح أكثر من سؤال حول أفق هذه الشراكة خاصة في ظل تزايد الحديث عن التفكير في تغيير نمط الإنتاج في المراحل اللاحقة من منصات عائمة إلى منصات ثابتة، ومما يزيد الطين بلة أن المطنقة باتتتجذب انتباه القوى الدولية خاصة روسيا التي تسعى جاهدة للعودة إلى إفريقيا واستعادة نفوذها في الغرب الإفريقي، الذي ترى في حقوله الغازية تهديدا حقيقيا للحفاظ على هيمتها على سوق الغاز الأوروبي.
لم يعد خفيا أن عوامل عديدة على راسها حرب الأسعار بين الكبار باتت تحيط بالسوق العالمي للغاز المسال،وتدفع الشركات نحو حسابات جديدة تجعل من طموحات الشعب الموريتاني في مهب الريح، بل إن الاكتشافات الكبيرة للغاز في المنطقة قد يعرضها للتحول إلى بؤرة صراع تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية، وقد يكون من مصلحة بلادنا إنشاء هيئة لتطوير المحتوى المحلي في مجال الصناعات الاستخراجية من أجل ضمان الاستفادة القصوى من ثرواتنا، وتعظيم دورها في الحد من الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك والقضاء على الفوارق الاجتماعية، والتخلي نهائيا على نمط التوزيع المتحيز الذي يعد على رأس الأسباب الكامنة وراء اندلاع النزاعات والحروب الأهلية خاصة في قارتنا الإفريقية.
د. يربان الخراشي