عطفا على ما ورد في الجزء الأول من المقال فإنني كنت قد طرحت التساؤل التالي: كيف يمكننا دراسة حدث وقع بالفعل لكنه مضى؟
لنأخذ مثالا حفل التوقيع على وثيقة استقلال موريتانيا، جميع أطرافها الذين وقعوا الوثيقة قد اختفوا الآن، كيف يمكننا دراسة هذا الحدث؟ وسيلتنا الوحيدة لدراسة هذا الحدث هو البحث عن آثار له لأن الاحداث في الغالب تترك آثارا وهذه الآثار هي المصادر المعتمدة. والمنهج التاريخي يقوم على التدقيق في هذه المصادر للوصول إلى معرفة الاحداث التي تمثل هذه الوثائق أثرها القائم.
وبناء عليه يمكننا القول إن علمية المنهج التاريخي تلتقي مع المنهج العلمي في العلوم البحتة في أن هذه الأخيرة تدرس الموضوع بوضعه تحت الملاحظة المباشرة والمنهج التاريخي يقوم بوضع أثار الموضوع تحت الملاحظة المباشرة.
والفرق هنا يكمن في أن المنهج التاريخي يتخذ من الأثر منطلقا لإعادة بناء الماضي عبر سلسلة من العمليات الذهنية المعقدة كالتدقيق والنقد والتحليل والمقارنة والاستنتاج والتقرير. فالمنهج التاريخي بذلك يختلف جذريا عن مناهج العلوم الأخرى. لأنه بدلا من التفكير في أحداث واقعية ملموسة فإن التفكير ينطلق من الوثائق. فالمنهج التاريخي بهذا المعنى منهج ذهني في الأساس.
وفيما يتعلق بتطبيق المنهج التاريخي على الشعر كمصدر من مصادر التاريخ فإن ذلك يطرح في الواقع مجموعة من الإشكالات نستعرض منها ما يلي:
- أن الشاعر ليس مؤرخا فهو قد لا يهتم ببعض السمات المهمة في علم التاريخ كالإطار الزماني والمكاني.
- أن الشاعر مولع بالصفات الجمالية في النص على حساب الدقة العلمية.
- أن الشاعر غالبا ما يستخدم الخيال والمبالغة في التصوير والتعبير.
- أن الشعر ليس دائما تسجيلا للوقائع والاحداث بل هو أحيانا كثيرة تعبير عن مشاعر وأحاسيس أو طموحات .
- أن الموضوعية والدقة والتجرد من حظوظ النفس أمور لا يمكن أن نلزم بها الشاعر لأنه عند ذلك سيفقد السيطرة على شاعريته.
أما المنهج التاريخي فيمكننا أن نأخذ عليه ما يلي
- أن المؤرخ قد تفوته بعض الجوانب المتعلقة بنمط المعيشة أو التقاليد أو الثقافة العامة للشاعر وهو ما قد يفوت عليه ان يفهم النص فهما صحيحا وهو ما يسميه أهل الفن الاستقراء الناقص ومرده إلى استحالة الإحاطة بكل ما يتعلق بالشاعر أو الشعر قيد الدراسة.
- الاهتمام بتفسير النص تفسيرا تاريخيا صرفا وهو ما يؤول إلى الاهتمام بالمضمون وإهمال الشكل الفني.
هذا فيما يتعلق بالشعر بصفة عامة لكن في الامر تخصيص وتعميم فإذا تعلق الامر بالشعر الجاهلي مثلا فإن العوائق التي أثرنا آنفا تنضاف إليها أمور أخرى تتعلق بطبيعة الشعر الجاهلي باعتباره مصدرا تاريخيا فإننا لو طبقنا عليه المنهج التاريخي لأمكننا أن نخرج بالملاحظات التالية:
- أن أكثر ما وصلنا من الشعر الجاهلي إنما هو نتاج ما وقع عليه اختيار الرواة فلقي منهم العناية بالحفظ والانشاد والكتابة. وعليه فقد كان الدافع إلى ذلك هو سماته الجمالية وليس ما يتضمنه من حقائق تاريخية فهم ينظرون إليه نظرة الأديب، لا نظرة المؤرخ. ويحق لنا والحال هذه أن نتوقع أن الشعر الذي لم تتحقق فيه المعايير الفنية لم يلق منهم أي اهتمام وكان مآله النسيان. والحقيقة أن ذلك الشعر " الرديء" قد يجد فيه المؤرخ من المعطيات التاريخية الشيء الكثير.
- أن الشعر الجاهلي ينضح بالتاريخ الديني والاجتماعي ولا يتعرض للتاريخ السياسي إلا قليلا
- من الجدير بالذكر أن الشعر الجاهلي قد تعرض للضياع لأنه بقي نحو قرنين من الزمان تتداوله الالسن، ولم يدون إلا في تاريخ متأخر، ويذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير.
- ويجب ألا ننسى أن معظم ما وصلنا من الشعر الجاهلي، إنما كان من شعراء البدو، وليس من شعر الحضر، ومن ثم فهو يمثل البادية أكثر ما يمثل الحاضرة
وأخيرا يجب ألا ننسى أن هذا الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا متهم في صحة عزوه إلى فترة الجاهلية والآراء في ذلك معروفة ومنشورة في كتب الأدب القديم، وليست من بنات فكر المحدثين بل سبق القدامى إلى القول بأن كثيرًا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق.
لكن الذي لا شك فيه أننا غالبا نلجأ إلى التاريخ والتراث لفهم مغزى الشعر والاحاطة بكل معانيه التي أشار إليها الشاعر.
ولا نتوقع ممن لم يأخذ في الحسبان البعد التاريخي أو من لم يستخدم المنهج التاريخي في التحليل والفهم أن يستوعب كل تلك المعاني التي يطفح بها الشعر وأن يقدم تفسيرا تاريخيا لسبب استعمالها. هنا يأتي دور المنهج التاريخي في دراسة الإطار العام الذي يمكن من خلاله أن نفهم ونعلل كل ما يتضمنه المصدر التاريخي إذا كان شعرا.
وهذا المعنى هو الذي عناه ابن خلدون في معرض حديثه عن التاريخ بأنه " ... في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول... وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل الكائنات ومبادئها دقيق. وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ".
على أن الدقة والموضوعية والتثبت من صحة المصدر والأثر ليست بدعا في الثقافة العربية الإسلامية إذ من المعروف أن القرآن دعا إلى إعمال العقل والتفكر والتدبر في خلق الله وفي ملكوت السماوات والأرض و الآيات الدالة على ذلك كثيرة ومعروفة. و في هذا المعنى يقول عباس محمود العقاد متحدثا عن منزلة العقل ومكانته في القرآن: "والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه" هذا علاوة على منهج أهل الحديث في الجرح والتعديل الذي يعتبر حتى من وجهة نظر المؤرخين الغربيين قمة في الدقة والأمانة والصرامة العلمية وأتذكر في هذا الصدد أنني حينما كنت أدرس في فرنسا قال لي أستاذي الفرنسي المشرف على رسالتي للدكتوراه إنه معجب أيما إعجاب بمنهج المسلمين في التدقيقفي صحة الحديث وأنه يرى أن ما وصل إليه المسلمون في هذا الميدان يعتبر قمة في اتباع المنهج العلمي لإثبات الحقيقة ويعني به منهج الجرح والتعديل في علم الحديث.
فلا يستغرب والحالة هذه أن يكون للمنهج التاريخي أهميته في دراسة الشعر كمصدر من مصادر التاريخ لكن ذلك يجب الا يجعلنا نغفل خصوصية الشعر، وما يحمله من صور وتراكيب لغوية، ناهيك عما تمنحه الاستعارة أو المجاز من فضاء واسع في خطاب الشعر. ولعل فيما قاله عبد القادر الجنابي تشخيصا لطبيعة العلاقة بين الشعر والتاريخ حيث يقول: " إن كل قصيدة هي محاولة للمصالحة بين الشعر والتاريخ لصالح الشعر، ذلك أنّ الشاعر، حتّى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك فيما يسمّى «مجرى العصر» ينشد، دوماً، التملّص من طغيان التاريخ، إنّ جلّ المحاولات الشعرية الكبرى من القول السحري والقصيدة الملحمية إلى القصيدة الآلية تدعو إلى جعل القصيدة بوتقة ينصهر فيها التاريخ بالشعر."
فهل نحن أمام صراع بين الشعر والتاريخ يحاول كل منهما التملص من طغيان الآخر بل يسعى لترويضه وفق منطقه ومنهجه؟ وهل تطبيق المنهج التاريخي يفقد الشعر كنهه وخصوصيته وإلى أي مدى يمكننا الاستفادة من القصيدة كمصدر للتاريخ؟
إن التوفيق بين المنهج التاريخي والشعر كمصدر للتاريخ يقتضي من المؤرخ ألا يجعل من المنهج التاريخي حكما عن النص الشعري بل أن يحاول استنطاق النص الشعري لكي يستخلص منه المعطيات التاريخية التي تفيده في إعادة تركيب الاحداث التاريخية وفي دراسة وتصوير جوانب الحياة الإنسانية وبيئتها.