تلاحقه قضايا فساد فيها أكثر من تهمة منذ عام ونيف، إلا أنه يلتزم الصمت كلّما مثُل أمام القضاة والمحققين متحصّناً بالدستور، كونه رئيساً سابقاً للبلاد. محمد ولد عبد العزيز، الذي حكم موريتانيا عقداً كاملاً من الزمن (2009-2019)، أصبح اليوم متّهماً أمام القضاء. ينفي عن نفسه كل شبهة قائلاً إن النظام الحالي يصفّي حسابات معه. لا يتوقف ولد عبد العزيز عند هذا الحدّ، بل يريد دخول معترك السياسة، مجدَّداً، من بوابة حزب سياسي، وهو العسكري الذي وصل إلى السلطة بعد انقلاب "أبيض". فهل تجُبّ الصورة الجديدة للرجل ما قبلها؟
حصانة بعد الرئاسة
بعد الترقّب والجدل، خرج الرئيس الموريتاني السابق ليتحدث إلى الموريتانيين، من خلال مؤتمرات صحافية نُظّم أكبرها مساء الأربعاء 28 نيسان/أبريل 2021، عن مشاكله مع القضاء والسلطة الحالية، وذلك بعد انضمامه إلى "حزب الرباط الوطني من أجل الحقوق وبناء الأجيال".
وقال ولد عبد العزيز في مؤتمره الصحافي إنه يتعرض لاستهداف شخصي من قِبل مجموعة تنتمي إلى جهة واحدة تربطها قبيلة أو قبيلتان بالنظام، وذلك "لتمزيقه وتمزيق عشرية حكمه"، وأن كل ما يحدث له "الهدف منه منعه من ممارسة العمل السياسي".
وأكد ولد عبد العزيز أنّ "كل التهم الموجهة إليه لا أساس لها من الصحة، وأنّ لجنة التحقيق البرلمانية غير قانونية، إذ لا مرجعية دستورية لها، وإنما تعتمد في تشكيلها على النظام الداخلي للبرلمان، ولا يمكن الحكم على السلطة التنفيذية، ولا على السلطة القضائية، لأنه يناقض القانون".
وشرح ولد عبد العزيز بعضاً من متاعبه مع المحققين، وسبب تمسكه بما يسميه "الحصانة الرئاسية" التي يقول إنها ما زالت تشمله، بالرغم من أنه لم يعد في السلطة. واعتمد في قوله هذا على المادة 93 من الدستور معلناً أنه رفض الحديث إلى المحققين لأن استدعاءهم له غير قانوني حسب وجهة نظره، متمنياً لو لم تكن هذه المادة موجودة ليرد على بعض الأسئلة التي وُجّهت إليه.
هجوم مضاد
يحاول ولد عبد العزيز في استراتيجيته أن ينقل النار إلى ملعب الخصم، قائلاً إن الخلل في بنية النظام السياسي الجديد بقيادة الرئيس محمد ولد الغزواني الذي لمّح إلى أنه يريد تصفية تركته. وأضاف: "أنظّم هذا المؤتمر بعد 18 شهراً من استهدافي من قبل السلطات وبعد عشرة أشهر من التحقيقات والمضايقات، إذ وُظّفت جميع الوسائل المادية والبشرية ضدي ظلماً"، والدافع الوحيد كما يقول هو محاولة منعه من ممارسة العمل السياسي.
في هجومه على النظام الحالي، قال ولد عبد العزيز إنه "أعاد البلاد عقوداً إلى الوراء، وقدّم المفسدين وأعطاهم مكانةً، بينما حقق نظامه مجموعة من الإنجازات". وأضاف أنّ حكمه "لم يكن مفسداً ولم يحدث فساد في عهده، وأن الرئيس ولد غزواني يعرف هذا جيداً"
لإيجاد موضع له في الحياة السياسية، قرّر ولد عبد العزيز الانخراط في العمل السياسي معلناً انضمامه إلى حزب الرباط. وكان قد أصدر بياناً انتقد فيه الأوضاع في موريتانيا واتّهم النظام الحالي بالفساد، في بداية شهر نيسان/ أبريل الماضي، كما أكد في مؤتمره الصحافي مواصلته العمل السياسي.
كلام ولد عبد العزيز في مؤتمره الصحافي، وخلال لقاءاته مع مناضلي حزب الرباط وإطلالاته المتكررة، فتحت النقاش حول مستقبله السياسي ومستقبل ملفه القضائي، إذ تلاحقه النيابة العامة بمجموعة من التهم المتعلقة بالفساد، وهو الآن يعيش في ظلّ الرقابة القضائية.
من الفساد إلى الاضطهاد السياسي
عدّ بعض المراقبين للمشهد السياسي الموريتاني، أن خروج ولد عبد العزيز إلى العلن وتصريحاته، مجرد محاولة منه لتحويل ملفه القضائي والاتهامات الموجهة إليه إلى قضية اضطهاد سياسي من طرف نظام قمعي، وأنه عازم بالفعل على الاستمرار في هذه الاستراتيجية التواصلية.
وفي حديث لرصيف22، قال المحلل السياسي والكاتب الصحافي وناشر جريدة بلادي الناطقة بالفرنسية موسى ولد حامد: "أعتقد أن محاولة الرئيس محمد ولد عبد العزيز الرجوع إلى المشهد السياسي أصبحت واضحة. خاصةً بعد انضمامه إلى حزب الرباط. فهو قطعاً لا يريد من الحزب المؤسَس قانونياً إلا أن يمارس من خلاله العمل السياسي في محاولة منه للتأثير على الرأي العام". ويضيف ولد حامد: "حساباته واضحة، فهو متهم بقضايا فساد يتجاهلها ويحاول أن يسيّس ملفه القضائي من خلال الهروب إلى ممارسة العمل السياسي".
وأشار ولد الحامد إلى أن ولد عبد العزيز، يعتمد في خطته على "الشعبوية وأنماطها الخطابية وكذلك على شبكات التواصل الاجتماعي التي يحاول من خلالها أن يُبرز سلبيات هذا النظام، وأن يُروّج لنفسه".
وأضاف: "هل هناك آذان صاغية؟ أنا أعتقد أن الرأي العام الموريتاني سبق وأصدر حكمه على ولد عبد العزيز في قضايا الفساد المُتَّهم بها، وأدانه. ولا أعتقد أنه لا يزال بإمكانه التأثير عليه خاصةً أنه لم يترك لنفسه حليفاً سياسياً أو شريكاً محتملاً يعوّل عليه، لأنه هاجم المعارضة والنظام. لذا لا اعتقد أن لديه ما ينجزه على الصعيد السياسي".
ويرى ولد الحامد أن ولد عبد العزيز يحاول تسييس مشكلته لئلا يبقى ملاحقاً بقضايا الاحتيال واختلاس المال العام وغيرها من التهم الموجهة إليه، متجاهلاً الواقع، معلناً أن ما يتعرض له مجرد لعبة سياسية يتعرض لها كل رئيس سابق ممن يخلفه.
وأكد ولد الحامد أن "الرأي العام الوطني أصدر حكمه، أما الدولي فأعتقد أنه منشغل عن قضايا الدول غير المركزية كموريتانيا وغيرها. والاتهام الموجه إلى ولد عبد العزيز بسيط ومن السهل أن تقتنع به الدول الأجنبية، لأن موريتانيا دولة معروفة بالفساد والرشوة وسرقة المال العام. وبالتالي لا يُتهم رئيس سابق اتهاماً من هذا القبيل إلا وتكون التهمة مستساغة، وتُعدّ نزوعاً جيداً نحو محاسبة المجرمين".
ويرى الكاتب والمحلل السياسي الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ سيديا أن ولد العزيز استطاع أن يحرز تقدّماً بالرغم من كل ما يحيط به. وقال في حديثه لرصيف22: "الخطوة البارزة التي حققها ولد عبد العزيز هي انضواؤه تحت راية حزب سياسي بعد أن كانت الطريق مسدودة أمامه، بالإضافة إلى انتقاده الوفاق السياسي الهشّ بين مختلف الأطراف السياسية، إذ عدّه استسلاماً وذوباناً للمعارضة ممهداً لنفسه كبديل يعوّل عليه".
وأكد ولد الشيخ سيديا أن محاولات ولد عبد العزيز الرجوع إلى المشهد السياسي ستواجه عراقيل كثيرة. وأضاف: "أعتقد أن جوّ التّقارب والحوار الذي تنتهجه المعارضة وغالبية القوى السياسية ليس مؤاتياً لظهور قطب سياسي معارض جديد. فالرأي العام لم يعرف ولد عبد العزيز معارضاً، بل عرفه حاكماً عسكرياً ما يقلّل من فرص نجاح أية ديناميكية سيخلقها من حوله، لا سيما وأنه مقبل على محاكمة قد تفضي إلى إدانته، ما سيشكل رصاصة رحمة على مستقبله السياسي. من هذا المنطلق فإن الرجل ليس مؤثّرا ولن يكون كذلك، فهو عسكري سابق لا يحظى بثقة كبيرة بين صفوف الضباط، وسياسيّ حديث العهد بالسياسة، عزلته سنوات حكمه العشر عن موازين القوى في الرقعة السياسية".
"ملف العشرية" إلى أين؟
أصبح ملف الفساد الذي يلاحق ولد عبد العزيز وأركان نظامه ورجال الأعمال المقربين منه، معروفاً بـ"ملف العشرية". منذ تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية التي انبثق منها ملف محاكمة ولد عبد العزيز، والجدل محتدم حول مصير هذا الملف. هل ثمة جدّية في التعامل معه أم أنه مجرد ملف للمناكفة السياسية اعتاد الموريتانيون عليه في عهود الأنظمة التي حكمتهم؟ وهل سيكون القضاء على قدر التحدي وإحداث النقلة النوعية في محاكمة رئيس سابق بتهم الفساد وتبديد ثروات الدولة واستخدام النفوذ، أم أنها مجرد لعبة من ألعاب السلطة لإخراج ولد عبد العزيز من المشهد السياسي، ولتجعل منه شمّاعة تعلّق عليها السلطة فشلها في تقديم خدمات محترمة للمواطن الموريتاني وفي العمل على تحقيق الرفاهية ووقف الفساد؟
يرى بعض المراقبين أن التصعيد الإعلامي للرئيس السابق مجرد مراوغة من النظام الحالي لخلق شمّاعة يعلّق عليها فشله وفزّاعة يرعب بها المواطنين من خلال صناعة "بعبع" يهدد كيان الدولة هو ولد عبد العزيز، ويلهي بها المواطنين عن واقعهم المزري.
وبالرغم من ارتفاع حدة الجدل حول هذا الملف وإدارته، يرى البعض أن هناك فتوراً في الشارع وعدم مبالاة تجاه الملف. وعن مصير المحاكمة قال ولد الحامد: "فِي ما يخصّ ملف العشرية أعتقد أن مساره سيكون طويلاً ومن الصعب أن ينتهي في القريب العاجل، وذلك لأن قضاءنا بلا تجربة في التعامل مع هذا النوع من الملفات، والنظام السياسي يريد الابتعاد عن الملف وترك العدالة لتأخذ مجراها، ولا أعتقد أن الأمر واضح بشكل جلي".
ويضيف: "على الرغم من أن الرأي العام يحب أن يسترجع بعض الأموال المنهوبة، إلا أني لا أعرف متى يحصل هذا. وسلبي جداً لولاية محمد ولد غزواني الأولى عدم البت في هذا الملف بسرعة، لأنه سيلوثها إذا ما استمر طويلاً".
أما ولد الشيخ سيديا، فيراهن على أن الحكم على الرئيس السابق لن يتمّ خلال ولاية الرئيس غزواني الحالية، وأن العدالة ستضع يدها على ما بعض أمواله. ويتوقع أن تسعى وساطة خليجية لإصدار عفو رئاسي عنه، إلا أنه لا يعتقد أن ولد عبد العزيز سيوافق على البقاء خارج البلد".
ويضيف: "سينسحب ولد عبد العزيز من المشهد السياسي، وإن بقي فيه، فلن يكون ميزان القوى في صالحه لأن كل شيء سيتغير، وسيكون الموريتانيون أقل تعاطفاً أمام شعارات محاربة الفقر والحرمان والتهميش".