يؤسس الكاتب والأديب محمد السالك ولد ابراهيم، في روايته الرائعة هذه ( لغز إنجيل برنابا )، لنمط إبداعي جديد من الكتابة الروائية في موريتانيا، معجون في رمال هذه الأرض اولا ووهادها وجبالها وشواطئها، مستلهم لموروثها الثقافي والتاريخي العميق في المكان والزمان والإنسان، ليعبر من خلالها قنطرة نحو فضاء واسع من حوار الثقافات والحضارات بلا حدود؛ انطلاقا من رؤية تخيلية وواقعية معا امتزجتا في أعماق هذا الكاتب الكبير في بنية سردية قوية الحلقات والمحطات والشخوص والرموز .
جاءت رواية إنجيل برنابا شعلة وهاجة الضياء، تنفتح على عوالم وتيارات فكرية وثقافية عدة. وهي تقدم سرا وعلانية للمتلقي موريتانيا أرض الرجال بأسلوب مدهش وفتان كمهد لتلاقح حضارات بشرية متنوعة، شكلت منظومة قيم إنسانية وجمالية هامة، ساهمت في ترسيخ ثقافة السلم واحترام الآخر عبر العصور .
إن رواية ولد ابراهيم، هذه تطرح إشكالية عميقة في مفهوم الأمن الثقافي اليوم، والحوار بين الأديان والحضارات ألا وهي تهريب المقتنيات الثقافية والفنية وخصوصا المخطوطات النادرة، من خلال عصابات متخصصة ومافيا دولية وجدت في تحولات إقليمية ودولية مثل حرب العراق ودخول داعش إلى سوريا و جماعات العنف والإرهاب في ليبيا وشمال مالي وغيرها، كل ذلك هو هزات ارتدادية في فكر وثقافة الإنسان العربي والإفريقي، شكلت سبيلا واسعة للمتاجرة بهذه الكنوز الثقافية الحية ، في تحد سافر لهوية مجتمعات أفريقية وعربية خاصة في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء ، حيث اندمجت مجموعات بشرية ومكونات إثنية على صعيد واحد عبر الهجرات المتلاحقة وأنماط العيش المشترك ، لتشكل موريتانيا بالذات في هذا الفضاء الإفريقي الصحراوي حاضنة بارزة لهذا التراث الثقافي المهدد بالضياع والاندثار ، في زمن العولمة المتوحشة وفي ظل غياب ترسانة قانونية حقيقية، تحمي هذه الآثار والمقتنيات من عمليات النهب والتهريب المنظم.
وتتأسس المخيلة العامة لرواية ولد ابراهيم ، على رحلة مخطوطة نادرة في تاريخ البشرية، استقر بها النوى والمطاف بين شعاب ولاية آدرار في موريتانيا، بدء بضواحي وادان حتى مستقرها الأخير في مدينة آزوكي الأثرية عاصمة المرابطين، غافية في حضن جبل انطرازي الأشم غير بعيد من مقام الشهيد الإمام الحضرمي قاضي قضاة الدولة المرابطية وصاحب كتاب الإشارة في تدبير الإمارة .
ويبدأ الكاتب المبدع في حبك السيرة الروائية لخطابه السردي المدهش بشكل عجيب، عبر مجموعة من الفصول الثابتة في هذا العمل المتميز الذي ناهز 400 صفحة من القطع المتوسط ، تبرز عبقرية محمد السالك ولد ابراهيم، الفريدة من نوعها في الحدس والتخيل وتتبع خيوط التاريخ وثقوب الجغرافيا ومسارب الحضارات والثقافات بكل أطيافها؛ وتوظيف التاريخ والتراث مع أفق فكري واسع في رسم ملامح شخصيات الرواية العجيبة ومساراتها العامة في كبريات المدن والعواصم العالمية بدء أولا من مدينة أطار وجبال آدرار حيث ولدت قصة إنجيل برنابا الضائع.
ولعل أول شخصية بارزة في هذا السياق يمكن اعتبارها البطل الحقيقي في رواية ( لغز إنجيل برنابا ) هو البروفسور حامدون، بصفته مديرا لقسم المخطوطات والكتب النادرة في المكتبة الوطنية بالنمسا، وهو من أصل موريتاني. هذا الخبير الدولي في التراث الثقافي عبر العصور ، الذي يتقاسم مع زوجته في الرواية ( ارابيلا ) هموم البحث والتنقيب عن السمات المشتركة بين الثقافات والأديان ، وقد تعرف البروفسور حامدون على ارابيلا عندما كانا طالبين في جامعة أكسفورد قبل خمسة وعشرين عاما .
وقد أخبرها بأنه ولد في مدينة أطار شمال موريتانيا، التي جاء إليها والده قبل الإستقلال من قرية (كومبالي) وهي إحدى مدن ضفة نهر السينغال التي تعرف حاليا ب" مقامة".
وتتعد شخصيات الرواية رغم ان أدوارها تبقى رئيسية أيضا في هذا المخيال العام ، شخصيات من الشرق والغرب ومن البيئة المحلية مثل شخصية شقران المرشد السياحي الخبير بمسالك الصحراء ومتون الجبال.
إنها شخصيات عديدة ترسم عميقا المسار الإبداعي لهذا العمل الروائي، الذي ينقلك على جناح الدهشة والشوق من سطر إلى سطر ومن مكان إلى آخر ، في تساوق فني جميل، وأسلوب أدبي أصيل جعل من هذه الرواية فتنة وسحرا واقعيا وخياليا وتحفة نادرة من نوعها .
لقد أدى الاضطهاد الروماني للمسيحيين في شمال أفريقيا إلى نزوح مجموعات سكانية بربرية، بحثا عن أماكن آمنة- كما يقول الكاتب - لممارسة الشعائر الدينية، وقد حمل البعض منهم معه إنجيل برنابا حيث دفنوه هناك في الصحراء خوفا من بطش الإمبراطورية الرومانية .
" والسيد برنابا لمن لا يعرفه هو أحد حواريي المسيح عليه السلام ، واسمه يوسف بن لاوي بن ابراهيم".
إن العجيب في رواية محمد السالك ولد ابراهيم، هو أنها عمل أدبي متكامل الأبعاد ، جمع بين دهشة الأسلوب ومتانة الخطاب السردي القائم على تناول الأحداث والصور الإنسانية والعلاقات الاجتماعية ، ورحلة الأصول والفروع في منطقة الغرب الصحراوي عموما حيث نشأت في ولاية آدرار خصوصا مظاهر تمازج عرقي وثقافي واجتماعي مبكر .
لقد نجح الكاتب في تصوير رحلة مخطوطة نادرة ، قذفت بها رياح الهجرات الوسطى للمسيحيين في الصحراء إلى أكناف جبال آدرار ، قبل ان تبدأ رحلة أخرى مضادة في حقيبة إحدى السائحات الفرنسيات إلى عواصم عالمية عديدة ومدن شهيرة مثل روما واسطنبول وفيينا وجنيف وباريس، الخ ، تطاردها عصابات التهريب، وتتعقبها شرطة الإنتربول، وتحرسها عيون اليونسكو ، بحثا عن ضالة ثمينة كانت هنا في مدينة آزوكي التاريخية مهد المرابطين الأول قرب مدينة أطار التي أسسها شمس الدين الأول.
إن هذه الرواية إضافة كبيرة للأدب الموريتاني المعاصر ، بل هي مفخرة سوف تصل اصداؤها قريبا إلى ذاكرة العالم مثل فيلم "الموريتاني" الأخير لولد صلاحي المستلهم من روايته ( اغوانتنامو )؛ فكلتاهما تغرفان من بحر واحد من أجل تعريف المتلقي في كل مكان بهذا "الموريتاني" المتسامح، سفير القيم والحوار بين الأديان والثقافات والحضارات.
باختصار، إنها رواية تستحق القراءة و التكريم..
سيدي ولد الأمجاد
شاعر وأديب وإعلامي