يقول أرنست هيجل في تعريفه للسياسة "إنها علم الأحياء التطبيقي"؛ فهي بهذا المعنى تتطلب حنكة ورجاحة عقل وسرعة بديهة وقدرات خارقة على التكيف مع كل المستجدات؛ لذلك حظيت السياسة ورجالاتها باهتمامات عامة الناس؛ مثيرة بذلك الكثير من التساؤلات بحكم العلاقة المتعدية التي تؤثر بشكل مباشر في مصائر الشعوب..
وتوضح قصة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشيرشل مع صاحب التاكسي خلال الحرب العالمية الثانية الهالة التي تضفيها الشعوب على زعاماتها السياسية التي خلقت بدورها مكانة خاصة منحتهم صفة الخلود على مر التاريخ؛ وهي المكانة التي اختزلها (مايكل هارت) في كتابه الخالدون المائة ( The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History).
كان من الطبيعي في ظل انتشار ما يعرف بصحافة التابلويد Tabloidnewspaper; التي تهتم بفضائح المشاهير أن ينال رجالات السياسة بحكم مواقعهم وبعض مواقفهم المثيرة للجدل نصيبهم منها.
فقد ظهرت بوادر هذا الاهتمام في أوساط العامة في النصف الأول من القرن العشرين؛ مدفوعة بشغف فضولي لتتبع كل تفاصيل حياة السياسيين؛ مثل علاقاتهم الشخصية والجُمل التي يستخدمونها في خطاباتهم؛ وكذا نوعية ملابسهم; فضلا عن طرق جلوسهم على الكراسي وحركة اليدين أثناء الكلام ....
والحق أن هذا الأمر المزعج في معظم حيثياته فرض نوعا من التحفظ المشوب بالقلق على النخبة السياسية وصار هاجس الخوف من الفضحية شغلها الشاغل؛ ورغم ذلك كان هذا التحفظ أحد أهم العوامل التي تدفع السياسي ليقع عن قصد أوغيره في خارطة محظوراته؛ وفي ذلك يقول الكاتب محمد عبد الكريم " يبدو أن الحياة السياسية بما تتطلبه من جهد وأساليب وحكنة وذكاء تقود السياسي إلى سلوك ومسلك الفضحية عن قصد أوعن غير قصد".
فمن يقرأ كتاب الصحفي السابق في بي بي سي آندي هيوز :
A History of Political Scandals: Sex, Sleaze and Spin.
يدرك بغرابة كيف أثرت الفضائح السياسية على قادة دول عظمى في أزمنة لها خصوصياتها الدقيقة. ففضيحة وزير الدولة للحرب في المملكة المتحدة (جون بروفومو) مع الفتاة كرستين أدت لسقوط حكومة هولد ماكميلان المحافظة في ستينيات القرن الماضي؛ كما وضعت حدا لنهاية رجال مخضرمين في وقت كانت المملكة التي لاتغيب عنها الشمس في أمس الحاجة إليهم.
من نافلة القول التأكيد على أن الفضيحة السياسية أدت إلى استقالة الرئيس 37 للولايات المتحدة نيكسون؛ فيما عرف بفضحية ووتر جيت سنة 1974 التي اهتز بعدها البيت البيض بنحو عقدين من الزمن بفضيحة كلينتون مونيكا في العام 1998 وكادت أن تتسب في استقالة ثانية لرئيس أعظم دولة في العالم.
ربما لايدرك الكثير من سياسي العالم؛ خاصة الموريتانيين منهم؛ أن تقنيات تتبع زلات السياسيين وفضائحهم قد تطورت بشكل هائل ؛ وأن المعلومات التي كانت تصل الجماهير عن سياسييهم خلال سنة ونصف؛ يمكنها الآن أن تنشر في عشر ثوانٍ عبر أمواج عاتية من #الهشتاكات.
فوزير الإعلام السابق سيدي محمد ولد محم على حصافته وضع حدا لحياته الساسية في لحظة حماس؛ حين استخدم آية قرآنية في غير محلها في مهرجان بتلميت الشهير؛ فالضجة الإعلامية التي أثارتها نسبة صفة الله (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) لولد عبد العزيز جعلته يفقد مكانة وحظوة كانتا السبب في عدم قدرته على التعامل مع البوصلة المُوجِهة للنظام الحالي؛ ولاشك أن يمين ولد منصور المعروفة بيمين اطويله؛ قد أثرت على مساره السياسي ضمن منظمومة ترأسها لأكثر من عقد من الزمن.
الإشكال الذي يقع فيه كثيرون هو أنهم لا يحسنون الفرق بين السياسة والتهريج؛ كما لا تسعفهم مهاراتهم في الجمع بحرفية بين المصالح الشخصية والإمساك بخيوط اللعبة من أطراف مختلفة.
ليس من الغريب إذن في ظل وضعية كهذه أن نشهد تساقطا لزعامات سياسية في فخاخ قذرة في معظمها؛ تدار بسذاجة من قبل ممتهني الاقتيات على فضائح السياسيين؛ من خلال شبكات تمارس ابتزاز رجال قذفت بهم ظروف معينة للواجهة؛ لكنهم قد لا يملكون الآليات التي توفر لهم الحصانة من أعاصير السياسة.
تُعدحادثة كيفة التي تسببت في فوضى عارمة أنهت مهرجان الحزب الحاكم فيها؛ بصورة مخجلة؛ بعد قرابة سنة من التحضير ؛ وجها آخر للتهريج و"الفهلوة" باسم السياسة.
صحيح أن الامكانيات المادية؛ والوضعية الاجتماعية للشخص عاملان مهمان لمساعدته على أن يكون سياسيا ناجحا ؛ لكنهما دون الحنكة والكارزما ورجاحة العقل ليسا سوى وسيلة للتعجيل بالنهايات السيئة لمن يسعى لركوب السياسة من خلالهما.
ييدو امتهان السياسة مغريًا للباحثين عن الوصول للمناصب السامية في أزمنة قياسية؛ لكن قدرتها على إلقاء ممتهنيها على قارعة الحضيض؛ قد يكون أسرع مما يتوقون.. لكونهم لم يستعبوا بعدُ أن السياسة مهنةً للعقلاء فقط.
د. أمم ولد عبد الله