أحد أهم وأخطر الملفات الاستراتيجية التي حسمها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال المدة الوجيزة على ولايته الأولى، هي "الملف الديبلوماسي".
لقد تطلب ذلك جهدا كبيرًا، تمثل في أكثر من 20 زيارة رسمية لدول خارجية، فضلا عن المشاركة الفاعلة في كل الملفات الإقليمية: تنموية وأمنية، ومثلت استضافة قمم قارية وإقليمية حدثا نختصره في التعبير أن "أوروبا حضرت في نواكشوط" اقتباسا من تصريح الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون.
ولقد تمثل حسم الملف الخارجي في أسطر من المحاور والنقاط البارزة؛ نذكر منها:
1. حضور وهيمنة موريتانيا في ملف الأمن والتنمية في منطقة الساحل والمغرب العربي، وإفريقيا.
2. تحسين العلاقات مع كافة دول الجوار، ويحدث هذا لأول مرة منذ عقود. فقد أخرج الغزواني نواكشوط من أنشوطة "تابعية الجوار" إلى شريك وأخ وعمق استراتيجي وظهير للجميع. وكان قرار موريتانيا بالسماح للسنغال والمغرب بحضور قمة دول الساحل الخمس الأخيرة، وتكثيف الاتصالات مع الشقيقة الجزائر، عنوان رسالة ديبلوماسية جديدة (أنا للجميع، ولست رهينة لأحد).
3. كان الرئيس الغزواني هو الرئيس الأكثر إصرارا في العالم على موقفه المطالب بإعفاء ديون دول القارة الإفريقية لمواجهة آفة فقدان التنمية، ولمواجهة جائحة "كوفيد". لقد أصبح هذا المطلب اليوم "فقرة ثابتة" في أديبات الخطابات الرئاسية والأممية تجاه المنطقة.
4. لقد تحولت موريتانيا إلى منتج آراء وأفكار ومقترحات إزاء الحلول المطلوبة لمشاكل منطقة الساحل. ولقد أعربت الدول الأوروبية وأمريكا عن تقدير هذا "الدور المحوري" لنواكشوط، وهو دور يأتي في زمن ومكان مضغوطين جدا بسبب وضعية الاقتصاد العالمي جراء وباء غير مسبوق في تاريخ البشرية، وبسبب الصراعات المتفاقمة اجتماعيا وعرقيا وإقليميا في مناطق كثيرة من العالم،
5. لقد انعكست شخصية الرئيس بعمقها وثقافتها، وبخبرته العلمية والعسكرية والأمنية والاجتماعية، وشخصيته الكارمزية، التي شكلت اكتشافا بالنسبة للرؤساء الذين عبروا عن ذلك، على صورة البلد.
لقد هلل أولئك الرؤساء وإعلام دولهم لقائد جديد يحمل طموحا يتجاوز بلده إلى امتداداتهِ العربية والإفريقية والإنسانية. فالغزواني رئيس ينتمي إلى حضارة، لا إلى مقعد وظيفة.
إنه لا يرضى لدول المنطقة التدافع نحو ظل الشجرة المعزولة، بل نشر الحقول والواحات، واستثمار الحب في القلوب والنفوس لتلحيم ما فتـقَـتْـهُ السياسيات الخاطئة والقاصرة إزاء وحدة شعوبنا ومصيرها المشترك.
لقد نجح الرئيس الغزواني بإعادة الاعتبار إلى الدولة الموريتانية كلاعب رئيسي في المنطقة خصوصًا وإفريقيا عموما.
إن نواكشوط اليوم هي "حاضرة ومحطة" لا بد من زيارتها لحل مشاكل الساحل وإفريقيا، ولقد أعطى الرجل درسا في القيادة الإقليمية من خلال رئاسته لمجموعة دول الساحل (G5 Sahel)، فأقنع المجموعة الدولية (أمريكا، فرنسا، الاتحاد الأوروبي..) بمواصلة دعم دول الساحل ماليا، وسياسيا، وأمنيا، بل وأصبح ملف تمويل "قوة الساحل" من شبه المحسوم أمميا، بعد رسائل الصين وروسيا للغزواني في رئاسته لدول الساحل.
وقد تمثلت سنة رئاسة الرئيس الغزواني لمجموعة دول الساحل بدعم المجموعة من طرف كل السلطات الفاعلة في العالم.. من الأمثلة على ذلك ما حدث في قمة "بو" (يناير 2020)، وقمة نواكشوط (فبراير 2020)، والقمم المتتالية الإقليمية، القارية، والعالمية (قمة العالم كوكب واحد (one planet summet) في باريس يناير 2021)، وأخيرا قمة مجموعة الساحل في تشاد الشهر الماضي.
الرئيس الغزواني تقدم بمقترحات "واقعية وطموحة" لمواجهة مشاكل الساحل وإفريقيا وهي المشاكل المتمثلة في تحديات الإرهاب والجريمة المنظمة، وإزالة عوائق التنمية:
1.فقد رفع شعار "التنمية والأمن"، فلا أمن بدون تنمية ولا تنمية في منطقة مقيدة بالديون والفساد وبارونات المال الحرام وشركات استنزاف الثروات والمستثمرين في الحروب والمشاكل الأهلية والمجتمعية، ولا تنمية من دون محاربة الفقر والجهل والمرض،
لقد نظَّر الرجل لتشجيع "حوار فكري وديني" مع السلفية المتشددة، ودعا إلى كسب الحاضنة الاجتماعية للفكر المتطرف من خلال التنمية والتعليم والصحة.
2. قدم الرجل رؤية خبرة (متبصرة وميدانية) لمواجهة حقيقية للتحديات الأمنية وشرح المقاربة الأمنية الموريتانية لمحاربة الفقر تنمويا، والإرهاب عسكريا من خلال إنشاء قوة إفريقية للتدخل العسكري في إفريقيا بشرعية أممية ودعم مالي دولي من طرف المؤسسات المالية الدولية.
ولقد تم تبني المحاور الرئيسية في المقاربة الموريتانية من طرف دول المنطقة والمجموعة الدولية الداعمة... وكمثال بالغ الرمزية، تم تبني مقترح الرئيس بإنشاء جائزة الأمن والسلام لدول الساحل لتشجيع الإيمان والعمل على السلام والتعايش السلمي في المنطقة.
من الواضح أنَّ "الملف الديبلوماسي" في فكر الرئيس الغزواني يأخذ في الاعتبار أنَّ المفهوم الجديد لسيادة الدول يرتبط بمدى نجاح وتوسع علاقاتها في العالم. إن نفوذ الدول الحديثة لا يقف عند حدودها بل يصل الحد الذي يصله عملها الديبلوماسي، وما تركه من تأثير.
مع النجاح الديبلوماسي الكبير، وفي هذا الظرف الوجيز، يبدو أن الرئيس الغزواني أخذ في ترتيب الطاقم الديبلوماسي وفق معايير لم تكن متبعة. إذ تمثل أحد مظاهر الإخفاق الدبلوماسي والعزلة الماضية، في وضع سفراء في مكان وملفات مجهولة بالنسبةِ لهم ومن غير اختصاصهم.
وقد حظي التعديل الدبلوماسي الأخير في سفراء الدولة بقدر لافت من الاهتمام، غير أنَّ تلك التعينات التي كانت موفقة بكل المعايير، لم تُـقرأ وفق ما يبدو أنها آلية جديدة لاختيار الشخصيات المهنية وترقية السفراء المستحقين للترقية، وسنأخذ بعض الأمثلة لتوضيح ما لم ينتبه له من اعتبرها تغييرات عادية، ولم يعي أبعادها:
١-تم تعيين معالي السفير شيخنا ولد النني ولد ملاي الزين سفيرا في المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو).
شيخنا شخصية وطنية معروفة. وهو أحد رواد الإعلام المستقل في البلاد.
تمكن شيخنا، خلال الفترة الماضية، من أن يكون أحد أحسن وأنجح سفراء موريتانيا في غرب إفريقيا (النيجر، السنغال، غينيا كوناكري، غينيا بيساو، جمهورية الرأس الأخضر)، وقد قام بدور فعال في تطوير وتحسين العلاقات الموريتانية مع هذه الدول، خاصة العلاقات الموريتانية السنغالية وكذلك النيجيرية، التي استعان فيها بصداقته الشخصية مع الرجل الذي أصبح الرئيس الجديد للنيجر (محمد بازوم).
نجح في ترتيب السلطات السنغالية لدعوة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى حضور "مؤتمر السلم والأمن" في دكار نوفمبر 2019، أهم حدث أمني واستراتيجي سنوي في إفريقيا بعد القمة السنوية للوحدة الأفريقية في أديس أبابا. وكانت تلك الدعوة وخطاب الرئيس الغزواني بداية حقيقية لإتاحة الفرصة أمام شرح المقاربة الأمنية الموريتانية لمواجهة الفقر والإرهاب والتطرف.
خلاصة أداء الرئيس الغزواني في تلك القمة هو بروزه كزعيم جديد ودون منازع لملف منطقة الساحل.
غير أن السفير شيخنا نجح في تحقيق فتح كبير بتوطيد العلاقة الروحية مع السلطات الدينية الصوفية (المريدية) في السنغال والنيجر، وهو ملف يحتل أولوية رقم واحد من حيث التأثير الاستراتيجي في علاقة شعبينا ومواطنينا ورعاية مصالحنا، وفضلا عن نجاحه في حل الكثير من مشاكل الجاليات في هذه الدول، تمكن شيخنا ولد مولاي الزين من إقناع النخب السياسية والمدنية والصحافة السينغالية بدعم موريتانيا. لا نحتاج شرحا لأسباب قيام صحيفة عريقة مثل لسولي (le soleil)، بكيل المديح للمرحلة الجديدة التي تعيشها موريتانيا.
لقد فهم السفير شيخنا أن البعد الصوفي هو الحبل السري لإصلاح كل الأعطاب في علاقات البلدين والشعبين. وحقق نجاحا محسوما في هذا الإطار.
أما ترقيته سفيرا لدى (اليونسكو) في باريس، فهي تتجاوز تكليف الرجل بمواصلة تحسين صورة موريتانيا في فرنسا وتوضيح البعد الثقافي للبلد كما فعل في السنغال، إلى مهمة شاقة جدا، وهي أن منظمة (اليونسكو) ذات الـتأثير الخرافي على الثقافة العالمية، منظمة ما زال ملف موريتانيا لديها بمستوى الصفر. وهذا أمر غير مقبول، فأكبر ثروة لدى الموريتانيين هي البنية الثقافية المتوارثة عبر ألف عام! كيف تكون موريتانيا خارج محاور اهتمام المنظمة التي تصرف مليارات الدولارات جنوبنا وشمالنا، وكيف تغيب ثقافتنا؟
المهمة الصعبة هي جعل (اليونسكو) تمنحنا حقنا كدولة وكشعب في تسويق ثقافتنا. فنحن المعلم الأول في المنطقة (بدولتين: المرابطية والإمامية). إن ترف آلاف مثقفي المنظمة والجمعيات والمشاريع الداعمة لها، يجب أن يكون لنا فيه حضور. هذا تحدي لن يكسبه غير سفير يجيد اللعبة إعلاما وتواصلا وثقافة وحضورا شخصيا.
٢- السفيرة، والوزيرة سيسي بنت الشيخ ولد بيده، تتمتع بثقافة عالية وخبرة كبيرة في الديبلوماسية وفهم عميق لمفهوم الدولة.. يشكل تعيينها في واشنطن "رسالة" من طرف الرئيس الغزواني إلى "لوبي الأعماق في واشنطن" المُسوق لورقة الديمقراطية الجديدة وأهمية المرأة..
فالرئيس الغزواني رد بالمثل على تعيين واشنطن لامرأة سفيرة في نواكشوط. والرسالة بسيطة وعميقة: أرسلنا لكم امرأة مثقفة وسياسية تتقن ترتيب الأوراق وفق الأولويات والمصالح المشتركة.
٣- السفير محمد يحي ولد التيس الملقب الدحه، ديبلوماسي موريتاني مهني، أكاديمي، متميز له معرفة كبيرة بالمنطقة ولا سيما بالجارة السنغال.. محليا ينتمي إلى مجموعة وولاية حدودية لها علاقات تاريخية مع السنغال، مهمته الجديدة سهلة جدا بسبب الصداقة الشخصية والعلاقة الوطيدة بين الرئيسين: محمد الغزواني وماكي صال؛ وهو يجد أمامه الأرضية المناسبة التي مهدها السفير شيخنا ولد النني ولد ملاي الزين.
٤- معالي السفير سيد محمد ولد محمد سفيرنا في القاهرة ديبلوماسي مهني محترف وإداري ممتاز، معروف أنه أحد نجوم وزارة الخارجية بثقافته وخبرته وطيبة أخلاقه، ويتمتع بعلاقات واسعة ومعرفة دقيقة للثقافة المشرقية.
٥- معالي السفير سيداتي ولد أحمد عيشه، السفير الشجاع الذي قاد عودة قاطرة علاقاتنا مع العراق، هو سفير مهني مثقف واسع الاطلاع، له علاقات واسعة وخبرة طويلة في الديبلوماسية الموريتانية، وهو يتوجه إلى النيجر في مرحلة جديدة من تاريخ هذا البلد الصديق، مرحلة تحتاج سفيرا من وزن خاص.
٦- معالي السفير سيد محمد ولد محمد الراظي، قنصل ناجح وسفير موفق لاسيما أن له علاقات اجتماعية وطيدة بأغنى جالية في غامبيا. ويؤمل أن يصلح ما أفسدته ديبلوماسية الارتجال من علاقات البلدين، وأن يوفي الجالية حقها.
٧- معالي السفير محمد عبد الله ولد خطره شخصية سياسية بارزة له علاقات واسعة، محليا ينتمي إلى المناطق الشرقية الحدودية والتي يعمل الكثير من أبنائها في ساحل العاج.. سيكون وجوده قرب جالية يفهم طبيعتها ومشاكلها ضمن السياسة الجديدة التي تضع في أولوياتها "تقريب الدولة من الجاليات".
٨- معالي السفير محمد محمود ولد داهي خريج جامعات الإتحاد السوفيتي، له معرفة كبيرة بروسيا.. التي لا نحتاج الحديث عن أهمية دورها والحصول على دعمها.
٩- معالي السفير ودادي ولد سيدي هيبة سفير متواتر على نجاحه، وخبرته الكبيرة في الديبلوماسية، وكان أنجز كل المهام التي أوكلت له بنجاح، ما أهله لأن يكون "رجل مهمات ديبلوماسية" هامة.
نخلص إلى القول، إن التعيينات الأخيرة في السفراء، هي نقلة في لعبة متقنة، نجح خلالها الرئيس الغزواني نجاحا ديبلوماسيا باهرا يتجلى الآن في علاقاته وتواصله المباشر مع كل العواصم المهمة.. واشنطن، أبوظبي، باريس، لندن، القاهرة، مدريد، برلين، موسكو، بكين، الرياض، الكويت... إلخ.
هذا الفتح الديبلوماسي نجح لأن شعاره أن يتجاوز إلى مرحلة نموذج وقدوة حين يشعر الآخرون أنك تسعى لمصلحة أعم وأعمق، هي ذاتها فلسفة الرؤساء الكبار عبر التاريخ.
المختار ولد الشين
ناشط سياسي