قبل نحو عقد ونصف عقد من الآن، زرت إحدى سفاراتنا في الخارج لتصديق مستند مدني، ولم أستحسن الانصراف منها دون إلقاء السلام على السفير الذي لي به معرفة وصداقة وأكن له الكثير من الاحترام. طرقت باب مكتبه ودخلت، وبعد تبادل التحية والسلام والسؤال عن الأحوال والعمل والأهل، بادرني قائلا: لقد جئتني وأنا عائد لتوي من اجتماع مهم وناجح للغاية، تحدثتُ خلاله إلى عدد من المستثمرين ورجال الأعمال وأقنعتهم بالاستثمار في بلادنا وبالشراكة مع نظرائهم الموريتانيين. ثم أشعل سعادةُ السفير شاشةَ حاسوبه الشخصي، وقال لي: انظر، لقد أطلعتهم على فرص الاستثمار الكثيرة في بلادنا، وأريتهم هذه المَشاهد من مناجمنا وثرواتنا المعدنية الكبيرة في الشمال، ومن سهولنا الزراعية الشاسعة في الجنوب، ومن إمكاناتنا الرعوية الحيوانية الهائلة في الشرق، ومن شاطئنا الطويل الغني بالأسماك في الغرب.. وقد تفاجؤوا بكل هذا وأظهروا رغبة وحماساً غير عاديين للاستثمار وإنشاء الشركات والمصانع في بلادنا.
كان صديقي السفير صادقاً ومقتنعاً بكل حرف يقوله حول خطته الذكية لجذب الاستثمارات الضخمة إلى بلادنا من خلال بعض الصور على جهازه الشخصي. وقد هممت أن أقول له: لكن يا سعادة السفير، إن رأس المال أذكى وأجبن من أن نستدرجه بوسائل بسيطة للغاية مثل هذه. فهو يبحث عن ضمانات معروفة ولا يمكنه الذهاب إلى أي مكان دون أن يطمئن إلى توفرها فيه؛ مثل الاستقرار الأمني والسياسي، والحد الأدنى من المؤسسية واستقلال السلطة القضائية ونزاهتها، ومستوى معقولا من البنى التحتية والإمدادات الأساسية على مدار الوقت، علاوة على الخدمات اللوجستية والمصرفية والترفيهية المطلوبة لمجتمع المال والأعمال في كل أنحاء العالم. إذا ما وفرتم هذه الشروط والظروف الضرورية، فسيأتي المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال الأجانب إليكم في عقر داركم طالبين راغبين في نيل مجالات وفرص للاستثمار، دون ما حاجة للركض خلفهم والإلحاح شهوراً في طلب اللقاء بهم، كي يجاملوكم بإظهار الإعجاب حيال صور على حاسوب شخصي ليس فيها بالنسبة لهم ما يستحق الإعجاب أو يدعو للاقتناع والاطمئنان.
لقد هممت أن أقول ذلك للسفير، لكني بالطبع لم أقله، فربما يعلمه أكثر مني. ومهما يكن فإني لا أريد النيل من همته أو التقليل من حماسه، وإن تواردت على ذهني في تلك اللحظات قصص لأجانب كُثر غامروا باستثمار أموالهم في بلادنا فكان مآل مغامراتهم خسائر وخيبات ما فتئوا يذكرونها في كل موقف ومجلس.
ينبغي أن نصارح أنفسنا بالحقيقة المرة: لابد قبل كل محاولة لجذب الاسثتمار الأجنبي من معالجة ذلك الثلاثي الخطير المعشعش في واقعنا، ألا وهو الفساد والفوضى والفشل.. فبدون ذلك يتعذر استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية اللازمة لأي نهضة تنموية في ظل واقع العولمة المطْبِق على كوكب الأرض. لكن قبل ذلك وبعده يتعين علينا التخلص من «مسؤول كومسيهات» الذي طالما تسبب هو أيضاً في نفور الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية وهروبها من بلادنا، علاوةً على دوره الراسخ في متلازمة الفساد والفوضى والفشل.
موجبه تلك الصوتية المتداولة هذه الأيام لمهندس سعودي يتحدث فيها عن مآسي المستثمرين الأجانب في بلادنا، من واقع تجربته مع «إعمار» الطينطان الذي ما يزال إلى الآن من غير إعمار، كشاهد ودليل على كثير مما ورد في تلك الصوتية الجارحة لنا جميعاً، أو بالأحرى كبرهان آخر على الدور التخريبي الهائل لـ«مسؤول كومسيوهات»!