قبل أيام دفعني الفضول لقراءة رواية للكاتب الأمريكي من أصول روسية إسحاق عظيموف ت 1992 والمعنونة:I, Robot خلال قراءتي لسيرة المؤلف الغريب الذي جمع بين الكيمياء العضوية والتنظير لعلم النفس الربوتي Robotpsychology والكتابة الغارقة في الخيال ؛ استوقفتني مقولته الشهيرة حول العلاقة بين المعلم والتلميذ التي اختزلها بقوله: "يظهر المعلم عندما يكون التلميذ مستعدا" .
هذا التنظير الذي يمس في أحد جوانبه إشكاليات من واقع التعليم في البلد الذي أصبح منذ سنة ونصف مثار جدل ومكانا خصبا لتنفيذ أجندات من نوع آخر ؛ بعد أن ضلت طريقها في مختلف القطاعات العسكرية وشبه العسكرية.
كان من المفروض بحسب عظيموف أن يأتي الخلل من التلميذ وهذا ما يناسب المنطق الفطري للأشياء؛ لأن التلميذ هو المرآة العاكسة لجهود معلمه؛ لكن أن يحدث العكس فتلك إشكالية في غاية التعقيد.
فالأسر الموريتانية اليوم تنفق أكثر من 75% من ميزانيتها في تعليم أبنائها الذين يقضون جل وقتهم في البحث عن من يدرسهم؛ بينما فضل بعض المدرسين على -مايبدو- الانشغال باختيار الأوقات المناسبة للإضرابات في زمن الجائحة لإيصال رسالة ضلت طريقها هي الأخرى ليُكتب لها التيه في أزقة السياسة.
ولم تُثن التشجيعات التي قدمها النظام الحالي للمدرسين والتي شملت مضاعفة علاوة البعد ودفع مخصصات الطباشير لمدة اثني عشر شهرا؛ بدل تسعة أشهر بعض نقابات التعليم عن السير في خطوات اثقلت كاهل المجتمع؛ تماما كما لم يُعط النقابيون كبير اهتمام لجهود وزير التهذيب الذي يسابق الزمن لضبط الموارد البشرية للقطاع كي يتمكن من ترتيب الأولويات التي تخدم المعلم والأستاذ بالدرجة الأولى.
هذا الإصرار المبهم على السير في الاتجاه ذاته جعل أولياء الأمور وغيرهم من المهتمين يطرحون تساؤلات جوهرية من قبيل ..لماذا اختفت جهود النقابيين في زمن الجائحة لدعم تلامذة الأقسام النهائية ؟
وكيف يمكن تفسير مزاولة المضربين في سنوات ماضية لأعمالهم في التعليم الخاص في الوقت الذي يرفضون فيه تدريس أبناء الفقراء في المدارس العمومية الذين لايستطيع ذووهم دفع رسوم المدارس الخاصة؟
يرى المراقبون لشأن التعليم في موريتانيا من مختلف القوى الحية في المجتمع أن استغلال الظروف الصعبة التي يمربها البلد لتحقيق مكاسب بعينها؛ هو أمر لايناسب من يفثرض بهم أن يكونوا درعا واقية من الصدمات التي يعانيها المجتمع في زمن الجائحة.
لقد تتبعت باهتمام خلال الأسابيع الماضية جلسات النقاش التي دارت بين الوزير وممثلي النقابات والتي كانت بناءة في معظمها؛ لكن ثمة أمورا أخرى ربما تفرضها طبيعة ترتيب الأولويات لدى النقابيين التي تتغير بحسب ما تُمليه السياسة أولا قبل حاجيات التلاميذ وأولياء أمورهم.
فرغم كون معالي الوزير كان جادا في طرحه وحريصا على الخروج برؤية تشاركية تخدم المنظومة التعليمية قبل كل شيء؛ إلا أن تصوره كان دائما مايُقابَل بتصعيد يُظهر أن العنف هو آخر الشواهد على عدم تقبل الرأي الآخر؛ كي لا استخدم اسلوب عظيموف في تفسيره للعنف.
إن اختيار أواخر شهر مارس (22-26) لتنظيم إضراب لمدة أربعة أيام يعني اختطاف أكثر 24 ساعة من وقت التلاميذ الذي تحسب فيه الساعة بعشرة أشهر مما تعدون ؛ وهي فترة كافية لتعويض النقص لدى الكثير من الطلبة في المراحل الدراسية المختلفة ؛ خصوصا وأن الظرف حساس جدا؛ وذلك لمجموعة من الاعتبارات؛ منها ماهو تربوي سيؤثر بشكل مباشر على التحصيل المعرفي لطلاب لم يدرسوا طوال الفصل الأول من هذه السنة.
أما الضرر النفسي الذي سيلحق بهم في هذه الفترة فسيكون له تأثيره السلبي على استعدادهم للتحضير لشهادات ختم الدروس الابتدائية والإعدادية و شهادة الباكلوريا؛ مما يعني بالضرورة أن منظري الإضرابات في مثل هذه الظروف لايولون كبير اهتمام للأضرار الجسيمة اللاحقة
بالتلامذة وأولياء أمورهم، وبالمجتمع بصورة عامة.
وعلى العموم لا ينبغي أن تختزل الأمور في صراعات شخصية، سعيا لمحاولة إقناع الرأي العام بأن المدرس مجرد ضحية لكونه الحلقة الأضعف.
إن اعتماد هذه الصورة لتبرير مهاجمة شخص الوزير بأساليب غير موضوعية إنما هو شبهة لادليل عليها وأمر لايتناسب مع مستويات صناع الأجيال ؛ تلك إذن مجرد فقاعات لإخفاء حقائق سيظل الضمير المستتر العامل فيها؛ هو ذلك الفاعل الذي رفعته أفعال معتلة عديدة منعت من ظهور الحركة؛ فالمسألة في سبرها تتطلب تكاتف الجهود وإعطاء الأولوية لمصلحة العباد والبلاد؛ قبل التعلق بأجندات أخرى تفرض علينا المصلحة العامة تأجيلها؛ ومن أخطر سبل هذه الأجندات أن يسلك الزملاء مفاوز التصعيد خارج النظم التربوية من دون داعٍ...!
أليس إصرار مربي الأجيال على تنظيم الإضرابات زمن الجائحة ينبئ عن انتقام لامسوغ له؛ لا في الواقع ولا في رهانات المدرس؟..
د.أمم ولد عبد الله