و"نكالة" أو "الطرقة" مصطلحان لمعنى واحد متجذر في الثقافة الشنقيطية، ويحمل مجموعة من معاني التعاضض، والتكاتف، والإيثار، في المجتمع الشنقيطي، المتجانس في أعماره وفي ألوانه.
ويروج اسم "ونكالة" في المجتمع النسوي، ويذهب اسم "الطرقة" إلى المجتمع الرجالي. وهذه الأخيرة هي ما درج عليه علية القوم، وتطبيقها أن هذه الطائفة تتعارف على هذا الفعل التراثي العميق، فيتبادلون الأحاديث والرؤى وما يتعلق بالمجتمع. وهو فعل يومي، يقوم به أحد أفراد الجماعة، ويخبر به زملاءه، بأنه سيقومفي الغد بإعداد طعام "الطرقة"، وهم يتبعون في ذلك تقاليد دقيقة وصارمة. فالذي سيقوم بإعداد الطرقة عليه أن يكون معه أحد أبنائه، أو من يساعده في دعاء أفراد المجموعة حينما يحصل الطعام، فيمر بمنزل كل فرد قبل صلاة الظهر ويعلن له أن الطعام قد أصبح جاهزا، وعليه أن يذهب إلى "الدار" المنزل، وحينما تجتمع الجماعة داخل المنزل، يؤمر الولد بإقفاله ويقولون بالعامية" اسرم الدار"، وحينما يدق أي أحد يقال له:"الدار ماه صايبه" أي أن المنزل مشغول وعليه أن يعود في وقت لاحق.
ولعلي أشير هنا إلى أن الجماعة التي تقوم ب"الطرقة" تجعل في الحسبان بأن طعامها قد يفسد بسبب أو بآخر، فيأتي المنادي ليعلن ذلك، فيلجؤون إلى أطعمتهم الخاصة بهم.
وقد حدثت لأحدهم حادثة طريفة ولأنها فعل تراثي مكمل لظاهرة "الطرقة" سأقصهاهنا. فقد كان أحدهم مع والده(جده لأمه) قد أعد طعاما جيدا من "لكسور"، ومن عادته أن لا يسكب مادة "الدهن" إلا بحضوره لضعف بصره، وكان الطفل قد خرج ليحضر قدحا ما، فسكب الوالد رحمه الله الدهن ظانا أن الولد واقف إلى جانبه، ولما دخل، قال له أين كنت؟ انظر يا ولدي إلى الطعام لعل الفأر قد سقط هنا، فلما نظر فإذا بفأر كبير مبطح في الطعام،(فالفأر عدو السطلة في بيوت أهل شنقيط، وقد شرحت ذلك في ما كتبته عن الفن المعماري لمدينة شنقيط)، فقال رحمه الله اذهب بالطعام إلى الأعلى واسكبه هناك، واذهب إلى الجماعة وقل لهم: إن " الطرقة خسرت"، أي أن الطعام قد فسد. ففعل الولد ما أمره به والده رحمه الله. فهذا فعل تراثي طريف ونادر، يعرفه أوائلنا ويقدرونه حق التقدير.
وبعد تناولهم لطعام "الطرقة" يغسلون أيديهم، ثم يشرعون في احتساء كؤوس الشاي، مع سمر داخلي، متأدب، ومتفقه، لا يخلو من مزاح لطيف.
وبعد الانتهاء، يدعون لصاحب النفقة، بقولهم: «أكل طعامَكُم الأبرارُ، وأفطرَ عندكمالصائمون، وصلَّت عليكم الملائكةُ وذَكَرَكُمْ اللَّهُ فِيْمَنْ عنده». فيرد صاحب المنزل بقوله: «الصِّحةُ معَ الإيمَانِ ودَوامِ العَافِية». ثم يتفرق الجمع الكريم، ليلتئم في اليوم الموالي، أو بعده، حسب الظروف.
أما الأطعمة التي تقدم في "الطرقة" فهي غالبا ما يسمى ب"كسكس، وعليه نص اربع من لحم الغنم"، أو "لكسور، وعليه التيشطار، تيشطار الوحش الحر". مع إضافة ما يعرف " بدهن الحيوان الحر". وإعداد هذين النوعين من الطعام يعد ثراء فاحشا عند البعض، وترفا زائدا، مما سيولد فعلا قدحيا عند البعض الآخر.
ولشيوع هذه الظاهرة في المجتمع الشنقيطي، والتغالي في فعلها فقد ذمها بعضهم، ونظر إليها من جانب الإسراف، والترف، فهذا الشاعر مولاي أحمد بن مولاي امحمد بن أحمد شريف يذمها ويعرض بالمترفين من أهلها ويحرمها فيقول:
إليكم أيها الكرام الأخــــــــــــــــــــــــــــــيار * أسنى سلام زكي كَسَتْهُ أنــــــــــــوار
تبدي بروق العلوم صفو مشربه * تُحِفُّهُ من رياض الشرع أزهــــــــار
وبعد المقدمة يشير إلى اسمها بقوله:
لَقبُه طُرْقَةٌ من سنه ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفها * وحاد عن نهج ما سنَّتْهُ الأبــــــــــرار
ثم يشير إلى ما يعده سببا لتحريمها فيقول:
لا تركنوا وذروا أمرا لعمري بــــــــــــــــــــــه * للدِّين ضر وللأموال إضــــــــــــــــــــــرار
رِبَي النسيئة ثم الفضل مطعـــــــــــــــــمه * يا خبثه مَأْكلاً ذَمَّتْهُ الآثـــــــــــــــــــــــــــــار
أعظم به آفة للمرء ضاع بــــــــــــــــــــــــها * مال وآخرة تُخشى بها النـــــــــــــــــــــــــار
وهي تزري بالقوم وتحط من شأنهم، وقد مضى من كان يقوم بها فهل من معتبر؟
دار الذين اتقوا يا فوز من لم يكن * عنها بدار الفنا عــــــــــــــــــــــــاقته الأوزار
فأين ذا إخوتي من عرف طرقتكمْ؟ * فهِي يُداخلُها التعــــــــــــــــــــــــــــويض والعار
عار على أحد تكون قاصــــــــــــــــــــــرة * والحر للعار طبعا ليس يــــــــــــــــــــــــــــــختار
فيبذل الجُهد في اتقائه حــــــــــــــــــــــذرا * قد كان يُسر به أو كان إعســــــــــــــــــــــــــــار
وقد اعتذر الشاعر لأهل شنقيط عن هذا التعريض، ولم يكن يريد به إزراء بالمروءة، والنيل من علية القوم، إلا أنه أشار إلى ما أفتى به الشرع، حيث قال:
تالله ما قَصْدُنا جرحَ القــــــــلوب به * كلاَّ لقد كاله بالشرع معيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار
قلتُ وإني لأولَى من يـــــــــــــقال له * فابدأ بنفسك فيما أنت تختـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار
فما انتهيتُ أنا وما ائتــــــــــــمرت به * إنِّي لنفسي أنا بالسوء أمَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار
ولستُ مِمَّن بشرط الأمر متَّصف * ولا أنا من له نهي وإنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكار
والقصيدة جميلة في موضوعها، وبسيطة في معانيها، أبانت عن تراث تليد لدى أبناء شنقيط، وهم يختلفون مع الشاعر في رأيه ولا يرون في الموضوع أي تجاوز للمقصد الديني.
وقد اتفقت أفكار شاعرنا مع معظم أفكار العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي المتوفى سنة 1233ه في كتابه الصغير الحجم الكبير المعنى الموسوم: "بتحرير المقالة في تحريم ونكالة" فقد جمع فيه الآراء التي يعتبرها محرمة "لونكالة".
ومهما يكن فإن ونكالة، أو الطرقة، نمط تراثي وفعل اجتماعي، درج عليه أهل هذه المدينة التاريخية، والتي أتحفت بتراثها كل مدن هذه البلاد، وكُرر ما تعارف عليه أهلها في كثير من الأماكن، وهي بذلك مصدر ثَرٌّ لكثير من تراث بلاد شنقيط، وإن اختلف التعبير عنه هنا أو هناك.