مر اليوم الذكري السادسة لرحيل معمر القذافي، أحد زعامات العالم الثالث الأكثر جدلا طيلة العقود الخمسة الاخيرة، وقد شغل الدنيا حيا وميتا.
لم يختلف الناس حول شخصية سياسية معاصرة كما إختلفوا حول تقييمهم للراحل معمر القذافي.
فمحبوه،يرون فيه الزعيم الأممي المخلص والمناضل العنيد والشرس في مقارعة سدنة العالم، والامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. كما يرون فيه نصير للمستضعفين في الأرض،ولحركات التحرر في العالم.
في حين يري فيه أعداءه وكارهوه أنه شخص مجنون، ومزاجي ، ودكتاتور حكم ليبيا بالحديد والنار، عبر أجهزة إستخباراتية، عملت علي تكميم الافواه وقمع الأصوات المعارضة بوحشية، عبر لجان التصفية الجسدية، وأنه بدد ثروات ليبيا في مغامرات مجنونة، وفي تلميع صورته، وسخر كل إمكانيات البلد في مسرحيات هزلية، كان فصلها الختامي" ملك ملوك إفريقيا"
والحقيقة أن الراحل معمر القدافي كان مزيجا فريدا من معظم ما ذكر أعلاه،والمفارقة أن من يحب معمر القذافي سيجد الكثير ليمدحه به ، كما أن الذين يكرهونه سيجدون الكثير ليقدحو فيه به.
قلما تجد كتابات منصفة حول الزعيم الراحل معمر القذافي، فمن أحبوه بالغوا كثيرا في مدحه، كما أن مبغضوه شطح بهم الخيال كثيرا في تعداد مباذله والصقوا به من التهم ما تساقط معظمهما بعد رحيله.
اللافت في مسيرة الراحل معمر القذافي، أن محبوه خارج ليبيا كثر، فوفق المجلة اليسارية الاكثر قراءة في فرنسا(المساواة والمصالحة) "egalite et reconciliation" أنه وحتي بعد رحيله لازال الزعيم السياسي الاكثر شعبية في أفريقيا، متقدما علي نيلسون مانديلا بثلاث نقاط مئوية ! (*) .
أربع رؤساء عرب جرفتهم في طريقها موجة ما سمي بالربيع العربي هم زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعبد الله صالح ومعمر القذافي ، اتهموا بالفساد ورهن أوطانهم للخارج. ثبتت التهمتان علي ثلاثة منهم وإن بنسب متفاوتة، وحده القذافي الذي ورغم الحملة الاعلامية الضخمة التي شنت عليه حيا إبان الاحداث أو بعد مماته، لم تستطيع أن تثبت عليه أي من التهمتين!
بعد أن انجلي غبار المعارك، وإلتقط الناس إنفاسهم بعد تلاحق وتدافع وتسارع وتيرة الأحداث في المنطقة العربية، بات المراقبون والمتتبعون علي يقين أن السبب الرئيسي لإغتيال القذافي كان دوره الرئيس في القارة الافريقية، وبتنا كلنا كمراقبين ومتابعين للشأن السياسي في المنطقة علي دراية بتهافت وإصرار فرنسا علي ضرورة تصفية حساباتها مع القذافي.
فمن الحقائق التي باتت معروفة للجميع والتي يتعامي عنها معظم العرب ولا سيما في المغرب العربي:
1. أن فرنسا مدينة لأفريقيا في بقائها منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم، حيث تعاني فرنسا منذ 1974 من خلل مزمن في ميزان المدفوعات، أفضي إلي عجز يتراوح من 43% إلي 72% تعوضه فرنسا عبر إجبار 14 بلد إفريقي علي أيداع كامل مدخراتها من النقد الاجنبي في البنك المركزي الفرنسي(**) ولا يسمح لهذه الدول بالتصرف في مدخراتها من النق\ الاجنبي إلا في حدود ضيقة ووفق قواعد صارمة حددتها فرنسا منذ 44 سنة ولازالت سارية حتي الان!
2. القمر الصناعي الافريقي الذي موله القذافي RASCOM-QAF1، والذي كان من المفترض أن يري النور في منتصف 2012 ، كان سيكلف فرنسا خسائر تقدر 524 مليار دولار تجنيها سنويا من إحتكار معظم إتصالات الدول الافريقية، أي أن هذا القمر سيجعل فرنسا تخسر حوالي37.2% من عائداتها السنوية(***).
للعلم هذا القمر الصناعي الافريقي كان سيوفر اتصالات رخيصة لعموم القارة الافريقية وسيعود بعائدات مجزية للدول الافريقية السبعة الممولة للمشروع ، أكبر حصة كانت لليبيا بــــ40% ، وتقدر المؤشرات الاولية ان عائدات ليبيا كانت ستتراوح بين 800 مليار إلي 1,2 تريليون دولار أي من 12 ضعف إلي 18 ضعف عائدات النفط في ليبيا!
3. البنك المركزي الافريقي والدينار الذهبي الافريقين والذين كانا سيربان النور في أواخر 2014 سيكلفان فرنسا خسارة 611 مليار دولار سنوي. أي ما يعادل 43.4% من عائداتها السنوية(****).
من هنا نري أن مشروعي القمر الصناعي والبنك المركزي الافريقي كانا سيكلفان فرنسا خسائر تقدر بــــ80.6% من عائداتها السنوية، أي فرنسا التي كانت ولا زالت تعيش علي أكتاف القارة الافريقية ، كانت في طريقها إلي الانتحار لو تحقق هذين المشروعين، من هنا يمكن فهم سرعة وإصرار فرنسا علي إغتيال القذافي.
علي المستوي البحثي، وفي أروقة المراكز البحثية وبيوتات الخبرة لا يختلف إثنان علي أن معمر القذافي كان دكتاتوريا حكم بالحديد والنار، لكنه بالمقابل جعل لليبيا مكانة دولية تفوق قدراتها المحدودة، وأن الراحل كان طينة فريدة من الحكام الاستثنائيين الذين يتصفون ببعد النظر والقدرة علي الاستشراف، وأنه كان مهووس بالوحدة العربية والافريقية، ومهما إختلف الناس في تقييمه، فقد كان رجل استثنائي، ولأنه هكذا رجالات التاريخ الاستثنائيين دائما مثيرين للجدل بإمتياز.
رحم الله الزعيم الراحل معمر القذافي ، وغفر له وأسكنه فسيح جناته ، كم تحتاج أمتنا العربية هذه الأيام لزعيم مثله لا يخشي العواقب ولا يبالي بالتبعات عندما يصل الامر إلي كرامة الامة.
د.الحسين الشيخ العلوي
20 أكتوبر 2017