في كل مرة يمر فيها البلد بصعوبات جمة يكثر الحديث عن ضرورة الحوار بين الأطياف السياسية والنظام الحاكم؛ قد نتفهم هذا الأمر بعد حدوث انقلابات عسكرية؛ خارجة عن الدستور؛ أوحين تقاطع المعارضة بعض الانتخابات اعتراضا على سياسات النظام؛ لكن عندما يتعلق الأمر بحديث من هذا القبيل في هذا الوقت بالذات؛ فإن الأمر يدعو للربية حقا.
وفي محاولة لفهم الواقع السياسي بأبعاده المختلفة وماتثيره المصداقية من إشكالات في ظل الوضع الراهن؛ سنحاول التركيز على ثلاث نقاط لفهم السؤال الذي يطرحه الظرف بقوة. وهو من يحق لهم الحوار باسم الشعب..؟
يتطلب منا فهم النقطة الأولى الحديث بإيجاز عن واقع المعارضة؛ الذي سبق وان خصصنا له مقالا بعنوان: "المعارضة الراديكالية عام من الصمت المحير"؛ فالمعارضة المنقسمة على نفسها لم تعد تملك القوة التي تخول لها التفاوض باسم الشعب؛ وذلك لجملة من الأسياب: منها ما يتعلق بتخلي البعض عن أبجديات تفرضها لعبة فن الممكن واستغلال البعض الآخر لرصيده من مصداقية منتهية الصلاحية للحوار مع النظام؛ من أجل تحقيق مآرب شخصية؛ فضلا عن انكشاف نوايا آخرين بشكل عرضهم لسخرية الرأي العام؛ الأمر الذي جعلهم يستعملون كل مهاراتهم السابقة في الدفاع عن مواقفهم الشخصية؛ متجاهلين بذلك كل ماله علاقة بالمصلحة العامة التي أتعبوا آذانا كثيرة بالحديث عنها؛ ففي كل مرة نسمع عن استقبال معارض في القصر الرمادي يتم بعدها تعيين أحد أفراد أسرته أو المقربين منه؛ ليخرج لنا في تدوينات تمجد النظام وتظهر حرصه على وحدة الشعب و تماسكه وعلى الشفافية في تسيير المال العام ؛ تعددت هذه الظاهرة مع أقطاب كانت محسوبة على المعارضة بكل أصنافها ..وفي هذا الإطار يندرج لقاء الرئيس الأخير مع رئيس حزب حاتم؛ وقبله زعيم حركة إيرا؛ وقبل ذلك ولد منصور الذي تعددت لقاءاته بالرئيس؛ والمحير في الأمر أن تصريح المحسوبين على المعارضة بعد لقا ئهم بالرئيس متشابه من حيث أسلوبه وحتى أهدافه.
والحقيقة أن إدراك النظام لواقع المعارضة واستغلاله لنقاط ضعفها عجل بتفكيكها وبصورة جعلتها تبدو مجرد أقسام من الحزب الحاكم.
يدفعناهذا الواقع لتناول العنصر الثاني في إشكالية الحوار والمصداقية المتعلق بأدوات النظام وأساليبه؛ فقد حرص ولد الغزواني على استغلال الصورة النمطية عنه في أذهان معظم الشعب الموريتاني التي يبدو فيها رجلا وديعا خلوقا له إرث من التربية الروحية من المفروض أن يمنعه من المشاركة في التلاعب بالمال العام؛ وإن كانت هذه الصورة لم تعد على "نصاعتها" بحسب رجل الشارع؛ الذي فسر إعادة تدوير المفسدين على أنها مجرد استمرار على نهج العشرية؛ لكنه عجز عن تصنيف شراء الفيلات في أهم المدن العالمية بمئات آلاف الدولارات في الوقت الذي يعجز فيه المواطن العادي عن شراء كيلوغرام من الأرز بدولار واحد.
ما يهمنا في العنصر المتعلق بالنظام أن رئيسه والمقربين منه نجحوا من خلال سياسات تعتمد الإغراء ؛ وأساليب التهدئة في اصطياد جميع الرؤوس التي كانت تصنف على أنها محرجة للأغلبية ورئيسها؛ والحق أن الأنظمة السابقة فشلت في النقطة التي نجح فيها نظام غزواني وبسهولة؛ وأعتقد أن الأمر يعود لسببين يتعلق أولهما بشخصية من يحكم البلد ومدى قدرته على استيعاب مخالفيه؛ أما الأمر الثاني فيرجع للمحيطين به الذين عملوا خلال الأحكام السابقة على شيطنة المعارضة؛ سبيلا لتحقيق أكثر مكاسب ممكنة؛ وفي الوقت ذاته تبديد جهود رأس النظام الذي لم يعد يرى سوى عدو واحد هو المعارضة؛ وهذا في الحقيقة أضاف بعدا آخر زاد من إقصاء المعارضة وتهميشها؛ يتعلق الأمرهنا بالخوف من اختراق العميل المزدوج؛ الذي دائما ما كان وراء نشر فضائح الأنظمة من الداخل بأسماء مستعارة.
إذا كان الرئيس الحالي قد نجح بحسب المراقبين في تفكيك المعارضة وسلبها مصداقيتها التقليدية لدى الكثيرين؛ فإن تركيزه على نقطة كهذه أثار إشكالا آخر أكثر تعقيدا؛ فقد بدا لدى معظم أفراد الشعب غير مهتم بالهموم التي تمس واقع الناس؛ فالتفاوض مع قادة الأحزاب لن يحل مشاكل عشرات الآلاف العاطلين عن العمل؛ تماما كما لن يكون أفضل الطرق لتسوية المشاكل التي تهدد استقرار موريتانيا مثل التفقير والإقصاء الممنهج وتركيز الثروة بيد عائلات بعينها ...
لقد ساهم تبديد المعارضة وتركيز النظام عليها في خلق استياء عام سيكون العنصر الثالث في هذا الموضوع ؛ فلم يعد خافيا انعدام الثقة بين المعارضة وبين قاعدة شعبية عريضة من جهة وبينها وبين النظام من جهة أخرى: وليست المظاهرات و(الهاشتاكات) المنتقدة للمعارضة وللنظام الحاكم على وسائل التواصل الاجتماعي سوى صورة مصغرة لواقع تبدو الثقة فيه منعدمة بين زوايا هذا المشهد الثلاثي .
المخيف في الأمر أن تيار التذمر من لعب هذا الثنائي (المعارضة والنظام ) واستئثارهما بالكعكة على طريقة (ميكي ماوس Mickey Mouse ) وصل للوسط الريفي وبصورة تنذر بحراك سيكون له مابعده في كل الأحوال؛ فلا تكاد تمر من قرية في هذا الوطن من جنوبه إلى شماله ومن أقصى شرقه إلى غربه دون أن تلاحظ نبرة استياء تجاه ممارسات الأغلبية وخيبة أمل لاتخلو من حسرة على ما آلت إليه المعارضة..ولا يمكنك في الو قت نفسه تجاهل بوادر ردة فعل قائمة على موجات ارتدادية من اليأس والإحباط ولدت تحريضا على العنف داخل الأوساط الأكثر فقرا في البلد.
فالمرحلة إذن تتطلب من النظام إطلاق مشاريع عملاقة للتشغيل؛ وإقامة نظام شفاف في المسابقات الوطنية؛ بدل التركيز على احتواء أفراد بعينهم ظنا من أصحاب القرار أنهم مازالوا يتحكمون في مفاتيح تعبئة الجماهير .
ثمة فرضية تجعلنا نميل إلى أن استمرار النظام في إغراء المعارضة قد يزيد الهوة بينه وبين القوة الحية البديلة(شباب عاطل؛ نقابات عمالية من الطبقات ذات الدخل المحدود ..) من مختلف مكونات الشعب الذي يبدو أنه لم يعد يثق بالمعارضة ولا حتى بالنظام ؛ وهذا مايظهره منحنى دالة الأحداث خلال السبعة أشهر الأخيرة؛ سواء من خلال العالم الافتراضي أو الواقع المعيش؛ الأمر الذي يضع مصداقية الحوار على المنحك؛ لأن غياب المصداقية يطرح سؤالا مركبا ومحيرا في نفس الوقت . من يحاور باسم من؟..
على أية حال لايمكننا الجزم بأن الوضع الحالي مناسب لحوار مبني على أسس صلبة؛ في ظل اعتبار النظام احتواء المعارضة انجازا ؛ في حين يرى الشعب أن انفراد هذا الثنائي بكل الامتيازات يهدد مصالحه الحقيقية ويقطع الطريق أمام كل طموحاته في إقامة تنمية مستدامة تخدم المصلحة العامة قبل كل شيء..
د.أمم ولد عبد الله