منذ عقدين من الزمن تقريبا وأنا أتابع باهتمام كل ما يجري في البلد سواءً من خلال عملي الميداني أو من خلال ما تكتبه الصحف المحلية والدولية؛ فضلا عن كل مايُنشر عن موريتانيا من قبل مراكز مهتمة باللغات العربية والفرنسية والانجليزية؛ بالإضافة طبعا إلى وسائل التواصل الاجتماعي..
فرض علي اهتمام كهذا أن أتعامل بأدوات منهجية تعتمد التحليل الموضوعي لفهم الأسباب التي قد تؤدي لزعزعة استقرار بلد يجمع كل المهتمين به على هشاشة تركبته الديموغرافية التي تحمل في مكوناتها قابلية للانشطار وبشكل يمس في الصميم أمن الدولة التي تعاني منذ الاستقلال من حيف ساهم هو الآخر في بروز ما نسميه "بالتوتر المزمن" .
والحق أن هذا التوتر أفرزته ثنائية تمثلها ذاكرة من الغبن والواقع المعيش الذي يجسد في كل تجلياته إعادة الصورة الماثلة في مخيلة الكثيرين من أبناء هذا الوطن؛ وليس اعتباطيا أن تحدث هزات عنيفة في كل مرة يحاول البعض فيها احتكار عنف الدولة لتحقيق أهداف شخصية؛ مثل ما حدث من ردات فعل على التعيينات في الوظائف السامية؛ (حالة التعيينات في وزارة المالية) ولعل مسابقة التعليم العالي الأخيرة تشكل نموذجا فاضحا لأساليب تدفع بالدولة نحول الانهيار لأجل تحقيق مصالح ضيقة وخارجة عن القانون.
فقد ساهمت ظاهرة الوزارات المعطلة في تأجيج الوضع ودفعه لحراك مقلق نظرا لطبيعته المركبة التي لاتخلو من عنف ينتج قواميس من الحقد ضد كل ماله علاقة بالسلطة. هذه الوضعية الغريبة في شكلها خلقت قطيعة بين المواطن والسلطة وتسببت في ثنائية عدائية قائمة على "مواطن ضد السلطة وسلطة ضد المواطن " التي نعيشها يوميا في كل ما له علاقة بفمهوم الدولة وسلطاتها .
وتشكل وزارات التعليم العالي ووزارة التهذيب الوطني؛ وكذا الداخلية والصيد والزراعة ؛ تضاف لها وزارة الطاقة والصحة وبعض الوكالات المسؤولة عن تشغيل الشباب؛ بؤراً لإعادة إنتاج خليط قائم على تعنيف المواطن يجمع بين اليأس والإحباط ويعمل في الوقت ذاته على تشجيع آلاف الشباب على استخدام العنف لكسر بيرو قراطية تحيط نفسها بسياج من المحسوبية والزبونية.
فوزارة التعليم العالي مثلا تسببت منذ سنوات في موجات احتجاجية لمنعها مجموعة من الطلبة من التحاق بالجامعة دون وجه حق؛ كما جعلت من التعليم العالي المكان المناسب لتصدير العنف الشرائحي وللتطرف بكل أشكاله؛ والأمر ذاته ينطبق عل الوزارات الأخرى؛ فقد أسند تسيير وزارة التهذيب مثلا لمكتب دراسات كان السبب في تعطيل كل إداراتها؛ ويعكس التسجيل الصوتي المتداول لمدير إحدى المؤسسات على تطبيق الوات ساب وضعية وزارة مختطفة من قبل شباب لا يملكون من الخبرة ما يؤهلهم لإدارة ملفات بهذا الحجم.
إن استخدام العنف فقط دون تقديم حلول؛ أوعلى الأقل مقترحات لحل من نوع ما؛ جعل من وزارة الداخلية لا تملك في نظر المواطن سوى استخدام العنف المفرض؛ مع عجزها الواضح عن تأمين أحياء ما بعد "مدريد" ؛ وتمثل حالة مكب تيفريت نموذجا للاستخدام العنف من أجل العنف الذي يعتبر على ما يبدو من أهم المقاربات المعتمدة من قبل وزير الداخلية الحالي .
أظهرت الاتفاقيات المجحفة في قطاع الصيد بنوعيه السطحي وصيد الأعماق إخلالا بينا كان السبب في تشريد آلاف العمال الموريتانيين المعيلين للأسر الضعيفة؛ ففي كل مرة نشهد مئات الصيادين التقليديين المحتجين على مصادرة أرزاقهم بطرق عبثية.
تبديد مئات المليارات من قبل المشرفين على وزارة التنمية الريفية شكل هو الآخر تهديدا حقيقيا للأمن الغذائي في البلد؛ وليس ارتفاع أسعار الخضراوات بعد أزمة معبر الكركارات سوى جانب يسير من الحقيقة المرة لتعطيل قطاع بهذا الحجم.
أما جحافل الموت في "اكليب الدور " والشكات فقد أوضحت مقاربة معالي وزير الطاقة الذي طبق سياسة الدفع المسبق للموت في صحراء قاحلة؛ في الوقت الذي تنهب فيه عشرات أطنان الذهب واليورانيوم والنحاس من قبل شركات أجنبية.
إستراتيجية المسافة القاتلة التي تسببت في موت مئات الفقراء الذين تعيقهم الوسائل؛ كانت من أهم عبقريات (الدكتور لاتولي) الذي أسندت له وزارة الصحة والذي اعتمد هو الآخر ثنائيات شكلية كالمسافة بين الصيدليات واحكتار تجارة الأدوية من قبل بارونات نافذة ..متجاهلا النقص الحاد في مختبرات الرقابة وحتى في أدوية أصحاب الأمراض المزمنة.
أما وكالة تشغيل الشباب وغيرها فلم تكن سوى عناوين لتكريس واقع يعطل كل وسائل الدولة في خطوة لدفعها للمواجهة مع مواطنيها ليس بسبب صعوبة الظروف وشح الموارد؛ وإنما بسبب إصرار البعض على التعامل مع كل موارد الدولة بمنطق الويس الرابع عشر المعروف بملك الشمس.
هكذا إذن شكل تعطيل وزارات بهذا الحجم من خلال استغلال مواردها الهائلة في تحقيق مآرب شخصية؛ عاملا مهما في تعنيف مجتمع برمته ودفعه نحو مواجهة تظهر قواميسها لغة إحباط خلقت وعيا قائما على العداوة لكل ماله علاقة بالسلطة؛ فهل يستطيع أصحاب القرار إعادة تفعيل كل هذه الوزارات وتطويعها لخدمة الوطن والمواطن قبل فوات الأوان،.؟
د.أمم ولد عبد الله