لمدينة ولاتة ومدينة تيشيت علاقة وطيدة بمدينة النيور وما جاورها، حيث يبسط الإمام والشيخ عمر الفوتي سلطته على تلك المناطق، فقد بلغت سلطته الروحية كل البلدان المجاورة، وامتد إشعاعه الثقافي إلى كل الأصقاع، يؤيده في ذلك مكانته العلمية، وروحه الجهادية، التي لم تدع أي استعماري إلا وأخرجته من بلاد الإسلام.
وقد زرع تلك الروح الجهادية في أبنائه وخاصة ابنه سيدي أحمد الكبير المدنى الذي ولاه القيادة من بعده، فكان أحسن خلف لخير سلف. فقد اهتم بنشر العلم والثقافة الإسلامية في ربوع بلاد السودان حيث كان يسيطر، فبلغ ما بلغ من الاتساع حيث وصل إلى بلاد شنقيط، وخاصة المدن المتاخمة لبلاده. ومن يطالع في تراث ولاتةوتيشيت لا تعوزه الشواهد في ذلك، فقد شعر أهل هذه المدن بنشر الأمن والأمان على عهده كما كان ذلك على عهد والده، فانبرت أقلام علمائها في رد الجميل إلى الابن الأمير، وجاء ذلك على شكل رسائل نثرية، وقصائد شعرية، أبانت عن خصائص الأمير وحبه وتقديره.
ونحن في هذا المقال نريد أن ننوه بمثال واحد من بين عشرات الأمثلة التي وقفنا عليها، لننبه إلى الثروة الهائلة التي امتازت بها تلك المدن في رسم الصورة الناصعة لأمير المومنين أحمد الكبير المدني.
لقد وقفت على نصين لإمام ولاتة العلامة الفهامة، الفصيح البليغ، المحجوب بن الإمام، أحدهما نثري والآخر شعري، طاف فيهما الإمام على جملة من القضايا المطروقة ساعتها ومن أهمها شيوع الأمن والأمان فقال في ذلك:" لا غاصب، ولا راهب، ولا غالب، ولا هارب، ولا طالب، جرت السفن بمجراها، ورعت الإبل بمرعاها، وأرسلت السماء أمطارها، وابتلعت الأرض أوزارها، وأبدت الأشجار نوارها، لا طارق، ولا سارق، ولا لاحق، ولا آبق، ولا عائق، وأصبحت تتباهى بسبقه، وتتفاخر بقربه، وتتفاضل بحزبه، فكان حقا علينا أن نتحدث بما ساقه الله من نعمه إلينا، ونمدحه وننصره، ونذكر مناقبه وشكره، ولو لم نمدحه لمدحتْهُ أفعاله، وطبائعه، ولقامت بمدحه دوننا صنائعه".
وقد مهد لهذه الصورة الرائعة التي قدمها، بإشارة إلى الأمير نفسه حيث ذكره بالاسم والصفة فقال:" فنحمد الله إذ جعل أميرنا أحمدنا، وجعله ألطفنا بنا وأرشدنا، أطلق سراحنا، ووسع مَرَاحنا، وأوضح صباحنا، وأمن رواحنا، به أعرسنا، وطربنا وانَّسَنا، وأكلنا ولبسنا، هو أمير المومنين وابن أمير المومنين المشهر، أبو العباس أحمد المدني، بن شيخنا الشيخ عمر، حفظه الله ورعاه، وتقبل في ذات لله مسعاه، ولي المعالي ووزيرها، وزمام المكارم وأميرها".
أما القصيدة فقد مهد لها هي الأخرى بقوله: ولقد سمحت القريحة مع قلة جودتها والفطنة مع كثرة زلتها، بأبيات علية، ولن تبلغ معشار عشر معاليه، وها هي هذه صادية.
وجاء في المقدمة ذكرا للبعد، وتسكاب الدموع منذ الابتعاد عن الديار مع ذكر لاسم ولاتة القديم المعروف ببيرو:
ما بال عينك مذ شطت بك الدار سالت بخديهما للنأي أنهار
أمن تذكر ألف أم لبارقـــــــــــــــــــــــــــــة من نحو بيرُ لها رعد وأمطار
ومما ذكره من تراث الأمير اهتمامه بالمدارس والتدريس، حيث قال:
هذه بلاد بها الحسناء قاطنــــــة زهر أكم وأنوار ونوار
فيها مدارس علم إن قفرْت بها ينلك مكنونها نشر وتكرار
ثم إن صورة المرأة في تلك البلاد مربوطة ببلاد الأمير أحمد الكبير، مستعملا بهابيتا شعريا جميلا، يماثل بيت أبي الصلت في مدح سيف بن ذي يزن، حيث قال بعدما عدد المآثر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فما كان من إمامنا المحجوب إلا أن فقال:
فيها من الغيد نسوان عــــــــــــــــرفن لها حور عفائف أتراب وأبكار
هن البدور فما يقربن فـــــــــــــــــــــــــــاحشة ولم ينل وصلهن الدهر زوار
تلك المكارم لا أبغي بها بـــــــــــــــــــــــدلا إلا بسيغ فتلك الدار تختار
دار بها أحمد المحمود من حمدت مسعاه في الدين أشرار وأخيار
ثم ذهب يعدد ما ناب تلك الدار من أفعال الأمير الجميلة، وأفضاله المتعددة، وأمجاده الخالدة وغيرها.
وما قصدنا تتبع كل القضايا التي أثارتها القصيدة ولدتها النثرية، وإنما الحاجة في ذلك أن نلفت أنظار المثقفين إلى ذلك التراث قصد دراسته، وتبيان أهميته، فهو حلقة من حلقات الفكر وثقافة بلاد شنقيط التي تمثل ثقافة الأطراف، ففيها من الطرافة الشيء الكثير.
ونشير هنا إلى أسرة آل انبوج ممثلة في سيدي محمدُّ بن محمد الصغير وأبنائه عبيدة وسيدي عبد الله، فقد مثلت هذا المنزع بنوعيه النثري والشعري، وأسالوا فيه كثيرا من الحبر، كما شاركهم في ذلك بعض شعراء ولاتة، وعلمائها مثل محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي، وغيرهم.
وندلل على ما قلناه بمثال واحد للشاعر عبد القادر بن محمد الملقب بالزين القلاوي، حيث قال في مطلع قصيدة له:
يا شيخنا وابن شيخ شيخنا عمــــــــــــــــــــرا منك رجونا كما نرجو من المطــــــــــــــــــر
فهذا تراث ضائع في مكتبات بلاد السودان ندعو إلى جمعه، وتحقيقه ودراسته، فهو صورة لأدب بلاد شنقيط المهاجر، إن لم نقل أدب مهجر بلاد شنقيط.