نعقد اليوم الحديث عن عالم من علماء مدينة وادان التاريخية، بعدما تحدثنافي المقالات السابقة عن علماء مدينة شنقيط وتيشيت وولاتة، وقصدنا من ذلك كله الإلمام بما أمكن من تراث مدننا القديمة، حيث يرقد الخزان الكبير لتراث هذه الأمة.
إن العالم المتبحر، عالم وادان الطالب أحمد بن اطوير الجنة، يصعب على الباحث أن يأخذ بطرف من العلم إلا وجد لهذا العالم طرفا فيه.
وقد كانت رحلته إلى البلاد المقدسة والتي دونها في عمله العظيم: رحلة المنى والمنة، والتي أشاد بها غير عالم من الشرق أو الغرب، غير أن مروره ذاهبا أو عائدا جعلته يعقد بعض الصلات مع أمراء البلاد التي مر بها، وفي هذه الوثيقة التي وقفنا عليها في إحدى مكتبات شنقيط العامرة، تظهر مدى قوة الرابطة مع أحد أمراء المسلمين كما يقول هو في الوثيقة، وهذا الأمير هو حسين بي، الذي كان يسوس ليبيا في ذلك الزمان. ويظهر أن علم الرجل ومكانته السامقة عند ذلك الأمير، هو ما جعله مقصدا لغيره من أجل التوسط لهم في الأمور الخاصة عند ذلك الأمير.
وآية ذلك أن ابن اطوير الجنة وهو عائد من الحج قد حضر معه أحد علماء طرابلس يدعى أبو منجل كما تقول الوثيقة، وأن هذا العالم عرف مكانة ابن اطوير الجنة عند الأمير فطلب منه التوسط، فكان أن كتب رسالة للأمير يخبره خبر العالم هذا ويصفه بأوصاف لطيفة حتى يقضي حاجته، فيقول: إلى من لا زالت الأيام تساعده، والآفات تباعده، محط الرجال، ومقصد ذوي الفاقات من النساء والرجال، ومهبط نيل الآمال، السيد الأسعد، الأعز الأمجد، الأغر الأمجد، الصفي الوفي، السخي الأبي، أمير المسلمين، جعله الله وأولاده، وجميع حكمته، في أمن وأمان من جميع الطوارئ من آفات الزمان، ومقصدا يقصدهم القاصي والداني، مغيظا لكل مبغض وشاني، سلطان المسلمين حسين بي.
السلام التام والتحية والإكرام، الأليقان بالمقام، وبعد، لا زلتم في عافية ونعمة ضافية ما عشتم بعد، ثم يبين عن المقصد بلغة سمحة لطيفة حيث يقول: فإن هنا عالما طرابلسيا جاء معنا في المركب اسمه: الحاج اسليمانبومنجل، عنده اثنى عشر فقيرا، يريد أن يسافر بهما إلى بلاده، وهي من الكرويه.
ويظهر من تبيان هذا المقصد أن ابن اطوير الجنة شديد الثقة في الأمير، ويعرف أن طلبه مجاب نتيجة للثقة التي يتمتع بها عند الأمير والتي عرفها له عالم طرابلس، وجعلته يطلب التوسط كما بينا.
لقد كانت تلك الوساطة مصدر إعزاز وإكبار من عالم طرابلس، حيث قابلها بالدعاء لعالمنا ابن اطوير الجنة، موردا نص التنزيل والحديث الشريف في ذلك حيث قال: "ولكم أنتم في ذلك الأجر العظيم، لأن من فرج كربا عن مسلم فرج الله عنه كرب يوم القيامة ويزيد الله به النصر عند الله، وعند العباد، وفي البلاد لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصر الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
فهذا تقدير للعلم والعلماء في شخص العلامة ابن اطوير الجنة من عالم مغربي، ألجأته الحاجة، فوجدت لها الاستجابة، عند من لا يتأخر عن تلبية ما يطلب منه في حال الاستطاعة. فهذا يؤكد على دور علماء الشناقطة في الوقوف مع الآخر في جميع مناحي الحياة علمية كانت أو اجتماعية، ولا ضير فهم رسل علم ومعرفة، وأخلاق وخُلق، ومواقف إنسانية واجتماعية كما تمثله هذه الوثيقة.
ودلالة على ذلك فقد مهر ابن اطوير الجنة هذه الوثيقة بخطه الرائع، فقال:"كتبه محبكم صدقا، وصديقكم حقا، الطالب أحمد بن اطوير الجنة، كان الله للجميع وليا ونصيرا. بوافر المنى والمنة، في هذه الدار دار السلام، بجاه سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعلى آله وأصحابه أنجم الظلام، صلاة وسلاما، دائمين على مر الليالي والأيام".
لقد كان لابن اطوير الجنة الأثر البالغ في مدينة طرابلس حيث ألف فيها بعض الرسائل مثل رسالته: فيض المنان قي الرد على مبتدعة هذا الزمان، حيث مهرها بقوله" وكان ابتداء هذه الرسالة المليحة الصحيحة الفصيحة في محروسة درن ثم طرابلس وتمامها في محروسة تونس منسلخ ربيع الثاني 1248هـ بيد جامعها ناقلا لا قائلا الطالب أحمد بن المصطفى بن اطوير الجنة الوداني، وأجاب عن بعض الأسئلة، وأنتج علما عرفته له الديار الليبية، فعد بذلك تراثا ليبيا وادانيا، وبالتالي فقد مثل العالم الشنقيطيالموسوعي، معلم الأجيال أين ما حل وارتحل.