(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، (الحجرات 6)
رابعا: عمل الادعاء العام
في الحلقة الأولى من هذا البحث تحدثنا عن عدم شرعية "لجنة التحقيق البرلمانية" وانعدام أي أساس قانوني لها، وخرقها لترتيبات الدستور الموريتاني، وخاصة مواده المنظمة للسلطة التشريعية؛ وهي المواد من 45 إلى 77، وفنّدنا جميع حجج القائلين بتلك اللجنة حجة بعد حجة. وتناولنا في الحلقة الثانية عمل تلك اللجنة تحديدا، فبينا خطأه وخطله وخطره على البلاد والعباد! وأن لا قائل على الإطلاق بأدنى مصداقية لتقريرها، ولا بإحالته إلى الحكومة، ولا إلى القضاء؛ لعدم شرعية الجهة التي أعدته أصلا، وعدم مشروعية محله، وعدم وجود آلية قانونية تنص على تلك الإحالة الفضولية! ثم عرجنا في الأخير على ما لنص المادة 93 من دستورنا من حجية بالغة، ونفاذ محكم، وما تكفله من حصانة مطلقة لا غبار عليها لرئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية - أيا كان- تتمثل وتتجسد في منع مساءلته الصريح المنصوص عن أفعاله أثناء ممارسته سلطاته فتقول: "لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسته سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى..." وفندنا بصورة لا تترك قولا لقائل جميع الآراء العشوائية التي صدرت عن عمدائنا وزملائنا من الطرف المدني المنتظر، حول تفسير وتأويل تلك المادة الصريحة التي لا تحتاج إلى تفسير ولا تقبل أي تأويل!
وها نحن الآن نتطرق لعمل الادعاء العام في هذا الملف،
لقد كان القضاء، وهو يتسلم هذا الملف، في وضع صعب لا يحسد عليه؛ وكأن لسان حاله ينشد قول الزمخشري:
"ما حيلة المرء والأقدار جارية ** عليه في كل حال أيها الرائي؟!
ألقاه في اليم مكــتوفا وقال له: ** إياك إياك أن تبتل بالماء!"
وذلك لأسباب عديدة من بينها مثلا:
- عدم شرعية ما قدم إليه؛ وهو أمر لا شك أن أولي الألباب من القضاة والمحامين وأساتذة القانون قد تنبهوا إليه وهم يرجعون البصر كرتين ويتدبرون ما يجري من حولهم.. {أم على قلوب أقفالها}؟!
- رداءة التقرير المسوم، رغم ما بذل فيه من جهد على مدى ستة أشهر، وأنفق فيه من مال كلف الخزينة العامة أعباء لا طائل من ورائها. وقد أشار إلى ذلك بحق الادعاء العام في رسالة خطته الأولية إلى المدعي العام فقال:
* في بعض الجوانب كانت المعلومات ناقصة جدا، واعتمد جزء من التحليل المقدم على وثائق جزئية، وصحتها مفترضة فقط!
* لم يتنبه المحررون إلى أن قانون مكافحة الفساد مثلا لا ينطبق إلا على الوقائع التي تلت دخوله حيز التنفيذ في 2016، ولا يعني ذلك وجود فراغ قانوني؛ لوجود قوانين جزائية أخرى، مثل قانون العقوبات، لكن بميزات أقل.
* مع إمكانية شمول التقادم لبعض الحالات!
* أن النسخة العربية مترجمة ترجمة غير جيدة، وبعض فقراتها يصعب فهمها بسبب أخطاء في الصياغة.
* إعطاء الوصف الجنائي للوقائع، وتحديد المسؤوليات من اختصاص القضاء، وسيكون الرجوع إلى تقرير اللجنة بهذا الخصوص على وجه الاستئناس فقط.
* ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أهم نتيجة ترجى من فتح ملفات الفساد هو استرجاع الدولة لأكبر قدر ممكن من الأموال العمومية المنهوبة، والتركيز على هذا الجانب قد يخفف بعض ضغط الرأي العام المتابع".
- الحملات الدعائية المحمومة للقوى الراعية لفتنة "لجنة التحقيق البرلمانية" بغية صرف النظر عن بطلان "لجنة التحقيق البرلمانية" وتقريرها، وإحاطتهما بهالة من القدسية الزائفة وتسويقهما للرأي العام بأنهما عمل رائد ورائع وكامل قام به نواب الشعب ضد الفساد، وقد لمسنا مفعول تلك الحملات السحري لدى النقيب في حديثه بفخر واعتزاز وحماس عن لجنة التحقيق وتقريرها؛ واصفا إياها بأنها "أول لجنة تعكف على مواضيع حساسة" وتقريرها بأنه "من مستوى عال"!
- ضغوط القوى الراعية لفتنة "لجنة التحقيق البرلمانية" على الحكومة والإدارة والقضاء، وتسخير جميع إمكانياتها في العمل على اتهام الرئيس السابق! خاصة بعدما "شهد شاهد من أهلها" وتعالت أصوات من داخل البرلمان، وبين أعضاء "لجنة التحقيق البرلمانية" نفسها تتحدث عن إخراج الإعلام "اللجنة من نسقها الحقيقي".1 وعن الحصانة التي يكفلها الدستور للرئيس السابق الذي هو خصم تلك القوى الأول والأخير، والهدف من إنشاء لجنة تحقيقها!
- هشاشة المرفق المستعصي على الإصلاح خلال العشرية، وغياب خبرة التعامل الفعال فيه مع ملفات الجريمة المنظمة، وتلك التي تكون الدولة - أو غيرها من القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية- طرفا فيها، وانعدام تقاليد احترام وتطبيق القانون لدى معظم الكادر البشري فيه، وسيادة فقه "الملاءمة" والتأويل لصالح السلطة أيا كانت؛ واستمراء الانتهاك الصارخ والدائب للمادة 4 من الدستور التي تقول بالحرف الواحد: "القانون هو التعبير الأسمى عن إرادة الشعب، ويجب أن يخضع له الجميع". أضف إلى ذلك كون هذه المعضلة لا مثيل لها فيحتذى في بلادنا وفي المنطقة! كما ذكر النقيب بحق!
- خنوع الضبطية القضائية، واختراقها، وتربيتها على الولاء الأعمى والخضوع للأوامر والتعليمات وإنكار العدالة وتجاهل القانون!
وهنا أتذكر وصية الرئيس الحبيب بورقيبة لبعثة القضاة الموريتانيين عندما استقبلهم في قصر السعادة بقرطاج صيف 1961 فقال: "يا أبنائي، العدل أساس الملك. فإذا انهارت جميع مرافق الدولة أو تأثرت بالفساد، وبقي مرفق العدل قائما، فستبقى الدولة قائمة ما بقي العدل. أما إذا تسرب الفساد إلى مرفق العدل، ويئس الناس من الحق، فعندها تنهار الدولة وتسود الفوضى والخراب، حتى ولو ظلت أسس الدولة الأخرى سليمة"! كما أتذكر أيضا، وأستحضر، ما يجري اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم بعد الشقة والمسافة بيننا؛ حيث وقف القضاء بغض النظر عن جميع الانتماءات الحزبية، وتضارب المصالح.. بمن فيه القضاة الذين عينهم الرئيس ترامب لحاجة في نفسه، يحمي الدستور والدولة والديمقراطية، وقال أحدهم وهو يرفض دعوى غير دستورية لحملة الرئيس ترامب: ليس من اختصاص القضاء خرق الدستور! ومن المؤكد أن الفرق شاسع بيننا وبين أمريكا، ولكن لا بأس في أن نستورد منها صالحا ينفع الناس ويمكث في الأرض، ضمن ما تزودنا به يوميا من طالح!
ورغم هذا الوضع المزري، فقد حاول الادعاء العام - عبر خطته المذكورة- الجنوح إلى الاعتدال، والتشبث بالقانون. وقد تجلى ذلك في تنبهه وتنبيهه على بعض عيوب التقرير، ووجود "رأي عام يستعجل مسار البحث، ويريده، كما تريده أطراف أخرى أن يكون سريعا جدا" وحرصه على التروي، وعدم "الانجرار دون تبصر وراء رأي عام تحركه عوامل مختلفة. تجنبا لتأثير ذلك على نتائج التحقيق، وعلى عمل أجهزة الدولة".
ولكن هيهات! إذ سرعان ما جرت الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فانقلب التروي والاعتدال تسرعا وانجرارا "دون تبصر وراء رأي عام تحركه عوامل مختلفة".. ودون أن ندرك لحد الآن جميع أسباب ذلك الانقلاب "القضائي" المفاجئ! أهو انقلاب بالقضاء بوحي من رئيس الجمهورية على عرابه ورفيقه وصديقه وشريكه في العشرية، وعلى حكومته وأغلبيته وشرعيته، وعلى الدستور، و"لجنة التحقيق البرلمانية" وتقريرها؟ أم انقلاب "قضائي" على الرئيسين السابق واللاحق معا، وعلى الشرعية والدستور؟!
يتبع
_______________
1. النواب: يحي ولد الوقف (وزير أول أسبق، عضو "لجنة التحقيق البرلمانية") ومحمد الأمين ولد سيدي مولود (عضو "لجنة التحقيق البرلمانية")ومحمد بويه ولد الشيخ محمد فاضل.