بحركة بهلوانية اعتادها إعلامنا الرسمي، فقزت التلفزة الوطنية في تقريرها التأبيني حول فقيد الوطن الرئيس سيدي ولد الشيخ عبدالله على حدث إطاحته من الحكم بانقلاب عسكري عام 2008، مما أعاد إلى ذاكرتي احتفالاتنا السنوية بذكرى إعلان الاستقلال الوطني وقيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية، دون أي ذكر للرئيس المؤسس صانع الاستقلال ومهندسه بلا منازع. وكذلك الأمر أيضاً في احتفالنا بذكرى تأسيس الجيش الوطني يوم الخامس والعشرين نوفمبر من كل عام، والذي لا يكاد أحد من أجيال اليوم يعلم اسم مؤسسه محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود، أول وزير لدفاع «الجمهورية الإسلامية الموريتانية». وربما أغرب من ذلك أنه قليل بين مثقفينا مَن يعلم شيئاً ذا بال عن محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود نفسه، الكاتب والمثقف التقدمي الطليعي الذي كان ينشر المقالات ويؤلف الكتب باسمه المستعار «حميد الموريتاني»، ومنها كتاباه المطبوعان «من أجل أيديولوجيا جديدة» و«الاستقلال الاستعماري الحديث». وبوصفه مثقفاً وكاتباً ومؤلفاً وصاحب نظرات عميقة في الاجتماع والتاريخ والأدب، كان موضع إشادة من طرف عالم الاجتماع الفرنسي فرانسي دي شاسيه في كتابه الشهير «موريتانيا من 1900 إلى 1975».
ورغم خلافه مع المختار ولد داداه على خلفية أحداث عام 1966 العرقية، حيث كان محمد يقود تياراً يسارياً داخل نظام الحكم، مقابل تيار يميني يقوده أحمد ولد محمد صالح، لتتم إقالة محمد ولد والشيخ ولد أحمد محمود من جميع مناصبه الحكومية والحزبية.. رغم ذلك فإن المختار يثني في مذكراته ثناءً عظيماً على أول وزير دفاع له، ويتحدث عن كفاءته وزهده ونزاهته، قائلا إنه كان شعلة من الذكاء والفهم وعمق الإدراك، بل «كان متقدماً على عصره»، كما يقول حرفياً. وربما في هذه النقطة يكمن السبب الجوهري لخلافهما، إذ كان المختار قائداً إصلاحياً يتبنى المنهج التدرجي المراحلي في التعاطي مع واقع بدا له هشاً ومهترئاً وعرضة للعطب والانكسار في أي لحظة، ومن ثم فإن معالجته تتطلب الكثير من الحرص والحذر والحكمة، وعلى النقيض من هذا كان محمد مؤمناً بالثورة والحل الراديكالي والقطيعة الجذرية.
يقول محمد فال ولد سيدي ميله في مقال كتبه قبل ثلاث سنوات من الآن حول محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود، إنه بعد إقالته من مناصبه «حكم على نفسه بالإقامة (الجبرية) مدة 40 سنة الأخيرة من عمره في مشارف بتلميت، بين عيْنْ السلامَة واحْسَيْ شدّادْ، متبتلا قانعاً داخل خيمته: يتعبد ويكتب ويقرأ ويمارس الطب التقليدي المجاني لصالح مرضى الحي». ثم يضيف ولد سيدي ميله: «عندما عُزل ولد أحمد محمود من وظيفته اكتشف محيطـُه أنه لا يملك منزلا ولا ناقة ولا شاة ولا سيارة على الكرة الأرضية. فمع زهده ونزاهته في التسيير، كان على درجة كبيرة من الكرم، فهو يتقاسم راتبه باستمرار مع ذوي الحاجة من أهله ومحيطه ومعارفه. لذلك أثارت حالته الكثير من اللغط: وزير للدفاع، وزير للخارجية، قائد حزبي كبير، نقابي وطني وقاري، رئيس مجلس إدارة الخطوط الجوية الموريتانية.. فقير لا يملك ما به يودّع نواكشوط ليقضي 40 سنة من العزلة داخل خيمة بدوية قبل أن يحمله الأهل على فراش المرض إلى نواكشوط ليلتحق بالرفيق الأعلى سنة 2013». هذا هو مؤسس الجيش الوطني الذي نحتفل اليوم بتأسيسه دون أن نورد حرفاً واحداً عن مؤسسه، تماماً كما تقفز التلفزة الوطنية قفزتَها البهلوانية المعتادة حول أهم لحظة في حياة الرئيس الفقيد سيدي ولد الشيخ عبدالله وهي تؤبّنه!