لفرنسا أسباب عجائبية (بالإنجليزية Fantastic ) خلف قراراتهاالاستعمارية العنيفة منذ القرن التاسع عشر على الأقل.
من أشهر تلك الأسباب العجائبية حادثة المروحة 1827 واتخذها لويس العاشر ذريعة "لاسترداد شرف فرنسا"، التي عجزت فعليا عن سداد ديون الجزائر في ظل حكم الدايالتركي.
وغيرها من الغرائبيات الاستعمارية في التبرير لاحتلال بلاد الله الواسعة في إفريقيا وآسيا.
تكررت الأسباب الغرائبية مع عملتي برخان وسرفال، لإنقاذ مالي، أي في الحقيقة لاسترداد ممتلكات فرنسا جنوب الصحراء وإنقاذ "رعاياها" من بأس الجماعات المسلحة.
في تسجيل غير مأذون صرح نائب فرنسي مشهور لصحفي محترف "سنقوم بإجراء" لموجهة تزايد سكان إفريقيا الذين سيبلغون مليار نسمة في عقود قادمة.
لم تكن عمليتا برخان 2014 و سرفال 2017 مجرد إنزال عسكري سريع لمواجهة جماعات مسلحة تهدد بلدا صديقا، بل كانت الفرصة الذهبية لإعادة الانتشار الفرنسي في إفريقيا جنوب الصحراء من أجل أهداف بعيدة الأمد.
مجاهرة رأس النظام الفرنسي بالانحياز ضد طرف من مواطنيه، وبهذه الحدة والفجاجة، له أسباب أبعد من مجرد "السيمفونية التقليدية" عن الجمهورية العلمانية وعن "الاندماج" وأشياء من هذا القبيل.
في فرنسا المعاصرة، بل في عموم أوروبا الغربية، كلما خبت نار فتنة قيضت لها يد خفية من يوقدها، ليبقى أوارها مشتعلا إلى الأبد.
ما الذي تغير في حياة هؤلاء "المغاربيين" ( Maghrébin) ليجعل فرنسا تشعر بالخوف؟ ليس في سلوك هؤلاء ما يريب، سوى التشنج الطبيعي الموروث من حقبة الاستعمار وما تلاها، ولم نر تهديدا أكثر من المألوف أو خارق للعادة، يجعل قيم الجمهورية الفرنسية في خطر.
إن وراء الأكمة ما وراءها، ولعلها "يد خفية" تعمل من داخل "الدولة العميقة" أو توجهها، أو توحي لها بخطاب مرموز كالفحيح يجعلها تنتفض وتفقد رصانتها وصوابها، فتطيش عقول أجهزة "المسبح" و مكاتب "الكي دورسيه"...
ما هي تلك الأيادي الخفية" هل هي محفل "الشرق الأعظم"، النادي الفرنسي التنويري، أم خلية فرنسا ـ إفريقيا، أم شيئ أقرب من ذلك: الرئيس نفسه "مقدّم" في المحفل النوراني و سليل أسرته الخاصة.
هل رفض المسلمين "الاندماج" هو سبب الذعر المبالغ فيه، أم هو خوف من نوع آخر طالما ظل غريبا وغير مفهوم من قبل المتابعين من خارج اللعبة.
تلك الأطرف ترفض بقاء المشهد الفرنسي رتيبا مملا، إنهاتريده أن يكون "حيويا" و "نشطا" أي قلقا على الدوام، كي لا يفقد "حسه" الموروث من أيام لويس التاسع، مثلا، أوربما، لكي لا يطرح أسئلة ملازمة "كالوسواس القهري" تجعله يبصر أبعد مما بين قدميه، فيكون في ذلك الخطر الداهم على تلك الأطراف الصامتة.
لقد بدأت العلمانية الفرنسية بعد أزيد على قرن من قانون 1905 تضيق ذرعا بالمسلمين، وباتت تسعى لتحقيق "مكاسب" من خلال موقف مزدوج: يستعيد الفرنسيون الأصليون ثقتهم في الجمهورية العلمانية، و يتم تذويب الملفات الثقيلة تحت شعارات أكثر ألقا، إنه بحث عن نوع من الاطمئنان والطمأنينة. التي لن يوفرها الشحن العاطفي، الغريب الذي صار سياسة رسمية فرنسية للأسف.
البحث عن تدعيم الجبهة الداخلية في أي بلد عمل طبيعي لأي نظام يواجه خطرا مزدوجا: تهديدا لنفوذه الخارجي وتآكلا في شرعيته الداخلية بسبب سياساته المختلة وطبيعة مواطنيه من المسلمين، الذين لم يستطع كسب ثقتهم.
هل بدأت فرنسا تضيق بمواطنيها، أم تبحث عن مخرج في ظل أزمات عميقة زادها كورونا تأزما.
الجمهورية الفرنسية وهالتها الإفريقية بدأت تفقد ألقها وهيبتها، تتلقى الضربات المتتالية من جماعات مسلحة مختفية في شعب الجبال وتتخذ من محيطها الشعبي المظلوم الذي يشعر بظلم الدولة المالية حاضنة شعبية، تشبه الحيتان في الماء.
التبرم من فرنسا في عموم إفريقيا لم يعد سرا بل صار حالة مشهودة وعلنية وبارزة في مالي وفي النيجر وحتى في تشاد.
عملية كاربخال لم تحقق شيئا يذكر، لقد جلبت الأسد إلى عش الزنابير، ليكون صيدا سهلا، أو ضيفا ثقيلا على المواطنين الأفارقة الذين يشكون خصاصا مبينا زادته حدة آثار العمليات العسكرية و"ضروراتها".
تبدو نهاية تلك العملية كما لو كانت السيناريو العملي لفيلم (sahara) المشهور والذي ينتهي بمحاولة هروب يائسة لمدير محطة طاقة شمسية في النيجر كانت تمدها بالكهرباء في الظاهر لكنها تبث سموما مهلكة تسري في الأنهر الجوفية، ولم تنقذه أيادي عملائه في الحكومة المحلية ولا الرِّشى التي يدفعها دوريا لعناصر الأمن هناك أو هناك.
فرنسا في مأزق حقيقي هذه المرة، إنها حبيسة صرح استعماري ممرّد من قوارير، يخلب الألباب لكنه ليس بشيء.